منذ السبعينات وأنا مفتون بالبرلمان البريطاني، وكنت حين البعثة أذهب كثيراً لأقف في طوابير طويلة كي أدخل شرفة البرلمان لأشاهد المداورات النقاشية، ولم تنقطع هذه الرغبة عندي إلى اليوم، حيث صرت أشاهد قناة البرلمان التي تبث مباشرة من البرلمان، ويعاد بثها في أوقات عدة، وأهم ما يلفت نظري بالنواب البريطانيين، هو المهارة الفائقة في توظيف اللغة بأعلى مستوياتها في الطرح والنقاش، ثم مهارتهم في سرعة البديهة حين يأتي أحدهم سؤال مباغت يقطع حديثه بصيغة مستفزة وعنيفة، وهو ديدن نظام المداخلات بما أن لكل عضو الحق في أن يرفع يده ليقاطع الخطيب ومن شأن الرئيس أن يعطي الفرصة لطالبها، وهنا تسمع سؤالاً يأتي كالرصاص ومعه تنطلق الصيحات مؤيدة أو شاجبة، وهي حالة امتحان صعب حول طريقة التعامل مع هذا الاستفزاز الحاد والعنيف، وتتجلى قدرات بعضهم في الرد القوي بقوة السؤال المستفز نفسه أو أشد.
والبرلمان البريطاني بعامة هو محفل مذهل في تصادم العقول والألسنة والمنطقيات السياسية والثقافية، وهنا سترى حالة امتحان ثقافي، وربما فلسفي عن قدرة المنطق على كسب القناعات أو عن إخفاقه على الرغم من منطقيته، وسترى خطباً بعضها يصل إلى أعلى درجات المنطقية وأقوى درجات الحيثيات، مما يجعلك تجزم بأن الخطيب قد أفلح في كسب الأسباب الداعية للإقناع، ولكنك تفاجأ حين التصويت بأن الأصوات تتجه ضده، وهنا سيأتيك السؤال المربك حين ترى أن المنطق والحجة وقوة البيان تعجز كلها عن تعديل رؤى المندوبين، حتى ليصوتوا ضد ما هو منطقي وبرهاني، ولا شك في أن التصويت يجري لأسباب سياسية وانتخابية وولاءات لكل عضو مع مصالح دائرته الانتخابية أو حزبه أو تطلعاته لموقع ما أو تخوفه على موقع ما، وهنا يأتي المأزق الديمقراطي والثقافي حين يتغلب حساب الأصوات على حساب المنطق، ويزداد التعقيد حين تتفكر بالأمر لتجد أن البشر غير قادرين على حل سؤال المنطق عندهم، ففي حين يملكون مهارات منطقية، لكن المنطق كله ينهزم في لحظة من اللحظات، وكأنما كتب على المنطق أن يكون مجرد حلية تتزين بها الألسن، أو مجرد كتاب فلسفي تتزين به الرفوف، لكنه عاجز عن أن يقود البشرية في يومياتها وفي نظم تخطيطها، وتظل البشرية تنتج من الأخطاء بأضعاف ما تنتج من المنطقيات.