قرأت يوماً أنّ في العاصمة المصرية القاهرة مشروعاً يُدعى (غرف الغضب)، وهو مكان تدخله مقابل أجرٍ محدد، ويُسمح لك فيه بأن تحطّم ما تشاء من الأواني الفخارية والمقاعد والأجهزة الكهربائية وقطع الأثاث القديم لتنفّس عن غضبك من دون عواقب وخيمة، بدلاً من أن تنفجر في مقرّ عملك مثلاً، أو أمام زوجتك، وينتهي بك الأمر للنوم على أريكة الصالة. ما أفضل وسيلة لتفريغ طاقتك السلبية؟ بالطبع سيخبرك أتباع كتب تطوير الذات، بأن تسترخي وتأخذ نفساً عميقاً وتمارس اليوجا لربع ساعة مع ترديد عبارة (احضري أيتها الطاقة الإيجابية)، ثم تشرب كأس ليمون بالنعناع، وتوزّع ابتساماتك هنا وهناك مع كبْت انفعالاتك، ليصبح وجهك مثل الغطاء اللامع لقِدر الضغط. على جانبٍ آخر؛ يُبدي البعض ردود فعل بديهية عند الشعور بالغضب، فمنهم من يصفق الباب بعنف، ومنهم من يدخّن 60 سيجارة في الساعة، وآخر يكتفي بالوضوء والتعوّذ من إبليس، ولا ننسى صديقنا الذي يتوجّه إلى الصالة الرياضية ويزعق مثل ديكٍ مزكوم وهو يرفع 30 كيلو جراماً، وينسى كل همومه حين يتوهّم بأن فتاةً جميلة ترمقه بإعجاب.
أما فيلم «التطهير» The Purge فيقترح حلاً جهنمياً لا يخطر على البال، ففي المستقبل القريب للولايات المتحدة الأميركية، تخصّص الحكومة يوماً واحداً في السنة، تُصبح فيه كل الجرائم مباحة، حيث يُسمح لكل أفراد الشعب بممارسة أعمال القتل والسرقة والتخريب والاغتصاب من دون أن يُعاقبوا، فلن تتدخّل الشرطة أو الإسعاف أو المطافئ طوال 12 ساعة، وعلى الأشخاص والعوائل والمتاجر أن يحموا أنفسهم بأنفسهم بمجرّد أن تنطلق صفارة الإنذار المخيفة معلنةً بدء ليلة التطهير.
الغضب، النزعة الإجرامية، الانتقام، المصلحة وتصفية الحسابات، المتعة.. إلخ، جميعها عوامل قد تدفع بالشخص إلى المشاركة في هذه المناسبة الوطنية المجنونة، والتي أدّت إلى انخفاض نسبة البطالة ومعدل الجرائم في باقي أيام السنة، فلِمَ يجازف أحدهم بارتكاب جريمة قتل، قد يُسجن بسببها في الأيام العادية، ما دام يستطيع ارتكابها بصفةٍ قانونية في يوم التطهير؟
The First Purge هو الجزء الرابع من السلسلة، لكنه يروي القصة من البداية، فبعد وصول حزب يُدعى (الآباء المؤسسون الجدد لأميركا) إلى البيت الأبيض، تقود الأوضاع المعيشية المتدهورة إلى تشريع أول عملية تطهير، والتي جرَت كتجربة أولية على جزيرة Staten المكتظة بالفقراء ورجال العصابات. فكرة رائعة وتنفيذ سيئ، هذا هو باختصار رأيي عن هذا الجزء، فقد توقعت أن تُمنح ليلة التطهير الأولى زخماً وتهيئة نفسية أكبر من ناحية الإخراج، يُضفي عليها شعور الرهبة وغموض البدايات وصدمة الفكرة لدى المشاهد. لكن بدا وكأن كل شيءٍ يحدث بسرعة، وبلا منطقية أو إقناع، وبأداءٍ باهت من أغلب الممثلين، مما أصابني بخيبة أمل، لأنني انتظرت هذا الجزء على أحرّ من الجمر، وكل ما أرجوه أن يعوّضني المسلسل الذي أُنتج اقتباساً من الفيلم، بعشر حلقات ستُعرض على التلفاز في سبتمبر المقبل.
لو تأمّلت حولك قليلًا، لوجدت أن عملية (التطهير) موجودة في عصرنا الحالي، وإن كانت على هيئة مختلفة. انظر مثلاً إلى موقع ask.fm أو صراحة، حيث يدخل على صفحتك مجهولون أشبه بالمجرمين الذين يرتدون أقنعةً مرعبة في فيلم The Purge، ويمارسون التنمّر ويطلقون الشتائم من دون أن تُكشف هويتهم ويُحاسبوا، فقد منحتهم مكاناً آمناً لينفّسوا فيه عن أحقادهم وعقدهم النفسية، ويخرجوا مرتاحين كأنهم أفرغوا أمعاءهم، وقد يبتسمون في وجهك ويصافحونك في الواقع كما يحدث بعد ليلة التطهير حين تعود الحياة لطبيعتها.
سؤالٌ مخيف: هل القانون هو الشيء الوحيد الذي يحول بينك وبين أن ترتكب جريمة ما؟ ففي غياب هذه السُّلطة لفترة معينة، هل تظن أنك تملك وازعاً دينياً أو أخلاقياً يردعك عن ارتكاب جرائم أو مخالفات أو أي أفعالٍ ممنوعة أخرى؟ إن كنت مشاركاً في عملية التطهير، هل ستخطط لزيارة مديرك الذي يقصم ظهرك في العمل؟ هل ستنتقمين من صديقتكِ التي قالت عنكِ (متنانة) في يوم العيد؟ هل تفكر الآن في لاعب فريقك الذي أضاع ركلة جزاء حاسمة؟ هل ستصفّين حساباتك مع التي تعمدت ارتداء نفس فستانكِ في العرس؟
أما أنا فأنفّس عن غضبي بالكتابة، وهذا هو ما أفعله الآن، وما سأفعله غداً وكل يوم.