ماذا لو أعدنا الفنانة كامي كلوديل، التي انطفأت في النسيان الكلي، للحياة من جديد، وسألناها: ماذا ستروي لنا عن حرائقها، وهي النحاتة العظيمة التي غيرت في نظام النحت ومقاييسه العالمية التي كانت تعتمد الإدهاش بالضخامة التي تملأ اليوم القصور والحدائق، بدل اعتماد التفاصيل الدقيقة والملامح العميقة؟ ماذا ستقول بعد أن قرر الغير، بمن فيهم أهلها وحبيبها الذي منحته كل شيء، النحات الكبير غوستاف رودان، الزج بها في مستشفى الأمراض العقلية، حتى الموت.
صرختها الوحيدة ليسمعها العالم الذكوري الأصم، كانت رسائلها. فقد فعلت المستحيل لتظل متوازنة، على الرغم من هشاشتها، سرقت نار بروميثيوس وزرعت الحياة والدفء في الحجر الميت، وفي عيون الناس وفي قلوبهم، وفي التربة والصلصال الذي كانت تختاره بدقة لتصنع منه منحوتاتها الحية، لكن الثمن الذي دفعته كان ثقيلاً وقاهراً. الشابة الهشة والجريئة، ذات العينين العسليتين، بدأت كعاملة في ورشة النحات الفرنسي والعالمي الكبير، غوستاف رودان، الذي كان كما زولا وبلزاك في الحقل الأدبي، إلهاً صغيراً. لم يكن أحد ينافسه في مشاريعه الضخمة. كانت كامي كلوديل تنفذ سلسلة من أجزاء المنحوتات التي كان يطلبها منها، بالمقاييس التي يحددها لها سلفاً، ويقوم هو بتركيبها لاحقاً. نقاد مختصون في أسلوب رودان يقولون إن منحوتته المشهورة «القبلة» التي رفعته إلى سدة العظماء، كانت فيها لمسة كامي واضحة وأساسية لدرجة أنهم أكدوا أن رودان سرق من كامي موهبتها الاستثنائية، وهو ما ظلت تؤكده حتى وهي في مستشفى الأمراض العقلية.
النحاتة كامي كلوديل، لم تكن عاملة عادية، لكن فنانة ومبدعة وعاشقة لرودان لدرجة أن غطت عاطفياً على روز التي كانت بمثابة زوجته، إذ أنجب منها أبناءه. وعد رودان الآنسة كامي كلوديل بالزواج، لكن روابطه مع روز كانت أقوى مما تصورت، فكامي التي ظلت متعلقة به، انفصلت عنه نهائياً، وهي في حالة كبيرة من اليأس والكآبة. بدأت تعمل لحسابها، بالخصوص بعد انهيار علاقتهما، كان عليها أن تبرز موهبتها ولا تبقى تابعة له. أرادت أن تسترجع أنوثتها المبثوثة في أعمال كثيرة لرودان وتدرجها في منحوتاتها مباشرة. كانت تحلم بأن تضع حداً لمن سرق منها الأنوار وعذوبتها الفنية. رودان أنكر أن يكون قد أخذ منها شيئاً. لكن لمساتها الأنثوية التي صبغت منحوتاته وهو معها، تبين إلى أي مدى امتص أنوثتها ورشاقتها وهو صاحب الأشكال الخشنة والضخمة.
طبعاً من يستمع لمجنونة؟ ظلت تشتكي إلى مختلف المؤسسات سرقة رودان لجهدها وعملها الفني، لكن لا أحد استمع لها. بل إنه حاصرها، فلم تعد تبيع أي قطعة فنية بالتأثير في المؤسسات الوطنية، الزبون الأساسي للفنانين وقتها. العكس هو الذي حدث. فقد اتفق رودان مع أم كامي كلوديل وأخيها الشاعر والدبلوماسي، وأدخلت إلى مستشفى الأمراض العقلية، فمكثت هناك حتى الموت بعد أن فشلت كل محاولات إنقاذها. فقد كان رودان السبب الرئيسي الذي يتخفى وراء مأساتها التي لم تمنحها أي فرصة لاستعادة جهودها وموهبتها. لا شاهد اليوم على مأساتها إلا رسائلها التي كتبتها لعائلتها، أو للمسؤولين في الدولة المشرفين على الفن، الذين تواطؤوا مع رودان وأغمضوا أعينهم على آلام كامي كلوديل.
تشكت كثيراً من هذه الغطرسة والإهمال الإداريين، من دون أن تتمكن من فرض رؤيتها واستمالة عطف الآخرين. كانت لرودان سلطة اجتماعية وفنية من الصعب تخطيها. وكان هو وراء إفلاسها الفني، إذ توقفت نهائياً عن النحت، لأنها لم تعد تبيع شيئاً. حتى النخبة الثقافية القوية وقتها كانت عموماً بورجوازية مصلحية تقف بجانب ما يخدمها مباشرة، وغوستاف رودان جزء من هذه الحلقة المهيمنة. لم يقف أي منهم مع الحق ضد الظلم، فسلموا بجنونها، فانتهت في مستشفى مونتفيرغ للأمراض النفسية. كانت النخب الثقافية متواطئة ومستسلمة لمنطق القوة والجبروت المجتمعي الذي لم يكن رودان إلا صورة محدودة له، ولم تفعل شيئاً ينقذها.
منحوتاتها القليلة المتبقية من رحلتها الفنية، ترفعها اليوم إلى أعلى المراتب الفنية. ورسائلها الجميلة التي نشرت بعد وفاتها تبين صدق حبها وقسوة الخيبة التي دمرتها داخلياً بشكل تراجيدي. لم تكن كامي مجنونة، كانت فقط مصابة بمرض اسمه غوستاف رودان. يأس العاشقة.