أكثر من ملياري متفرج يتابعون مباريات كأس العالم! أخيراً اتفق العالم على لغة توحّده في هذا الكوكب الذي تنقرض فيه كل سنة 25 لغة بحكم التطهير العرقي اللغوي للغاتٍ ولهجاتٍ لا تملك سلطة الانتشار. لا شك في أن لغة الأقدام أمامها عمر سيمتد ما امتدت أعمار البشر. فليكن، نحتاج أن نستقيل من عقولنا قليلاً، ولا بأس أن تتربّع الأقدام طوال شهر على عرش العُقول، وعلى عرش الأدب أيضاً. أمام فصاحة الأقدام، لا تستطيع الأقلام إلّا أن تخرس. وهو ما سبب إصابة توفيق الحكيم في سنواته الأخيرة بالإحباط، فقال وهو متكئ على عصاه «انتهى عصر القَلَم وبدأ عصر القَدَم». فقد أذهله أن يكسب لاعبو الكرة الملايين بأقدامهم، وليس بالفِكر والعِلم. في هذا العرس الكرويّ الكوني، بإمكانك في خلال شهر أن تُقيم زواجاً مسياراً مع أيِّ فريق تشاء، وتُشهر انتسابك إلى أي بلد كان، رافعاً علمه على سيارتك أو على شرفتك، مُدافعاً عنه في المجالس، من دون أن يتّهمك أحد بالعمالة، أو الخيانة. فأنتَ لست سوى واحد من بين ملياري إنسان ديانتهم الكرة، ويُقدِّمون لها قرابين الولاء كل أربع سنوات، وأحياناً يموتون قُرباناً لها. لكأن مساً من الجنون يصيب الرجال عندما يتعلّق الأمر بهذه الساحرة المستديرة. في استطلاع فرنسي، 50% من الرجال جاهزون لعدم ممارسة الجنس شهراً كاملاً والتخلّي عن كثير من مقتنياتهم، مقابل تذكرة لحضور مباريات فريقهم المفضل. وقبل أعوام قام أحد الإسبان المهووسين بالكرة بمفاجأة عروسه في حفل زفافه، بعزف الفرقة الموسيقية في الكنيسة للنشيد الرسمي لدوري أبطال أوروبا، وسط ذهول جميع الحاضرين بمن فيهم زوجته. أما في مصر فقد اختار أحدهم أن يحتفل بزواجه في أرض الملعب أثناء مباراة قمة بين الأهلي والزمالك، ودخل برفقة عروسه وأقاربه وأخذوا مكانهم وسط دهشة الجميع على مدرجات الملعب، بين مشجعي الفريقين الذين تحوّلوا إلى مشجعين للعروسين. لنعترف، ثمّة عداوة سريّة بين المرأة وكرة القدم. ليس فقط لشعور النساء بأنّهن منفيات ومعاقبات أسبوعياً بسبب هذه اللُّعبة، بل لأنّهن لا يفهمن أبداً أنَّ سيقاناً رجاليّة قدِمت، بعضها من الوحل كأقدام رونالدو، أو من الفقر كأقدام زيدان، في إمكانها تحريك أفواج بشريّة كاملة، ولها تأثير في رجال الكرة الأرضيّة، يفوق تأثير سيقان مارلين مونرو في وقفتها الشهيرة تلك، فوق مجرى الهواء. هذا السرّ شغل الكاتبة الفرنسية الكبيرة مارغريت دوراس، ففاجأت الوسط الأدبي، قبل وفاتها بسنوات، بإجراء حوار طويل مع النجم الفرنسي في كرة القدم آنذاك، ميشيل بلاتيني، عساها تفهم سر جاذبية هذه اللعبة. لكنها عادت بما زاد النساء ارتياباً، والكُتاب إحباطاً. لقد استنتجت، وهي الكاتبة الأكثر مبيعاً آنذاك، أنَّ ثمّة مجداً لن تطوله بقلمها، ومعارك ستخسرها أمام الذين يُفكّرون ويكتبون بأقدامهم! أغرب مباراة شاهدتها قبل سنوات، كانت على التلفزيون الفرنسي، وكانت ضمن تحقيق عن الحياة في كابول على أيام طالبان. إذ كان عناصر من طالبان يتنقّلون أثناءها بين كراسي المشاهدين وأنصار الفريقين، وينهالون ضرباً بالعصي والهراوات على كلّ من تُساوره نفسه ارتكاب جُنح الفرح وإبداء أعراض الابتهاج، والهتاف بغير «الله أكبر» تشجيعاً لفريقه. وطبعاً، كان اللاعبون يطاردون الكرة بسراويلهم الطويلة وغطاء الرأس، استناداً إلى فتوى السراويل، إذ كانت السراويل القصيرة تُكلِّف اللاعبين قصاص حلق رؤوسهم أمام أنصارهم. إضافة إلى أنها الملاعب الوحيدة في العالم التي تعمل قبل المباراة صالوناً للحلاقة، كانت ملاعب كابول تُقدِّم خدمة أُخرى بتحوّلها بعد نهاية المباراة إلى... ساحة للإعدام، مستفيدة من وجود الجمهور. فتنصب فيها فوراً مقصلة، وبكلّ روح رياضيّة ينتقل الآمرون بالمعروف من قصّ الشعر إلى قطع الرؤوس، ويتحوّل المشاهدون فوراً إلى مشجعين وأنصار لفريق القَتَلَة!