هناك تماثل كبير بين وظيفة الطب ووظيفة النقد (الثقافي تحديداً)، فالطب يتعامل مع الفيروسات الخطرة التي تفتك بالأجساد، والنقد الثقافي يتعامل مع الفيروسات الثقافية التي تفتك بالأذهان، وكلاهما لن يقضي على الفيروسات، ولن ينفيها من الوجود، وستحتال الفيروسات لنفسها حيلاً لا حصر لها لتبديل جلدها واسمها وطرق تسديد ضرباتها، وكذا هي الأنساق الثقافية ما إن نكشفها ونحاصرها حتى تتحول إلى صيغة أخرى تمرر بها أثرها، والأكيد في الحالين (طبياً ونقدياً) أن ملاحقة الفيروسات والأنساق، كشفاً ونقداً، هي مهمة مفتوحة ومتصلة، ولن تقف ما دام في الكون مضمار عريض لانتشار العلل وتنوع مستوياتها. أقول هذا لكي أصل إلى جوهر وظيفة النقد، وهي لا تختلف عن وظيفة الطب، أي أن كشف العلة يعني أننا ندخل مرحلة أخرى من المعركة، وهي أن الطب والنقد (كل في حقله) سيفتح أبواباً في الوعي، وهي أولى المهمات، ومتى ما وعيت بالعلة فستسيطر عليها بما أنك تضعها تحت النظر، ومن ثم تحاصرها بالمعرفة، بعد أن حاصرتك بالجهل، وهذه نقلة جوهرية تجعل النسق تحت النقد المستمر بما أنه تعرى وتكشف منهجياً وبحثياً ثم صار عنواناً بارزاً، كما تكشف العنصريات وحيلة اللغة في تمرير الخطاب تحت غطاء المجاز، ليمر وكأنها تميز الرجل على المرأة والكبير على الصغير والقوي على الضعيف والأبيض على الأسود، والمتعلم على الأمي، والغني على الفقير، تمر وكأنها حق طبيعي وميزة حصرية لصاحب الصفة، وسترى الشعر والحكايات والأمثال والنكت تشترك كلها في تعزيز هذه الطبقيات ويمر الفيروس (النسق) دون نقد، وتطول معه السنون وتتواتر به الأقاويل حتى يترسخ، ويصبح حقيقة مطلقة، ولكن النقد يحولها إلى مادة للتساؤل والفحص، كما يفعل الطب حين يكشف عن فيروس مختبئ يفتك بالأجساد، ولكن كشفه يجعله تحت النظر والمراقبة، وكذا هو النقد الثقافي مع النسق.