يسد أبو أحمد جوعه بطبق ساخن، ويسدّد فاتورته عبر نظرة امتنان كبير للنادل الشاب المبتسم الذي خدمه. هذا كل ما دفعه مقابل قوته اليومي. هذه ليست لقطة من فيلم أو مسلسل، بل مشهد يومي يتكرر في أحد المطاعم الشعبية في منطقة برج حمود، في قلب العاصمة اللبنانية بيروت.

قد يبدو المطعم من الوهلة الأولى عادياً ويُشبه الكثير من مطاعم لبنان الشعبية، لكن ما إن تتناول قائمة الطعام، لتتبيّن لائحة أسعار الأطباق المقدمة، فلا تُطالعك سوى كلمة شكراً مقابل كل صنف، وهو السعر الحقيقي والنهائي الذي ينبغي لرواد المطعم أن يقدموه. إذاً نحن أمام مبادرة إنسانية تحول دون نوم البعض جياعاً، في وقت تؤرّق فيه التخمة كثيرين. متطوعون لخدمة المحتاجين المطعم الصغير بحجمه الكبير بعطاءاته، ليس الوحيد في منطقة برج حمود، بل أصبح له إخوة وأخوات في مختلف المناطق اللبنانية من الشمال إلى الجنوب، أطلقوا على أنفسهم عائلة «سعادة السماء». ففي منطقة الشياح، حيث أشعلت «بوسطة عين الرمانة» الشرارة الأولى لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، هنالك «بوسطة» من نوع آخر تقدم الطعام والكثير من الحب في منطقة منكوبة بذكريات الحرب لكي «تنذكر وما تنعاد». أما مدير جمعية «سعادة السماء» جيرار شرفان، فلفت إلى أن بعض الفروع تقدم أيضاً خدمة «الديلفري»، لتوصيل الطعام مجاناً إلى منازل المحتاجين من الذين لا يستطيعون الوصول إلينا، لاسيّما كبار السنّ. وأشار إلى وجود صالة خاصة تصلح لحفلات الخطوبة وأعياد الميلاد توفّرها الجمعية، لأن من حق الفقير أن يفرح ويحتفل على حد تعبيره. شرفان أشاد بدعم المغتربين اللبنانيين في أميركا وكندا وأستراليا، وبنخوة اللبنانيين الذين يُلبّون كل نداء مساعدة تُطلقه الجمعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي. مأساة اللجوء السوري تسعة فروع تنتشر اليوم في لبنان وتضيق بحاجات الناس، يؤمّن خدماتها متطوعات ومتطوعون، يبذلون جهوداً قصوى في سبيل خدمة الغير. وبجهودهم هذه لم تعد مطاعم «سعادة السماء» مكاناً يتناول فيه الأقل حظاً طعامه فحسب، بل أصبحت مساحة مشاركة وراحة وطمأنينة، فالندُل المتطوعون يقدمون لقمة ساخنة ورفقة جميلة وابتسامة لا تنضب. وباتت هذه المطاعم جزءاً لا يتجزأ من المجتمع المحلي، الذي ترزح شرائح واسعة منه تحت خط الفقر، ويزيد الصورة بؤساً اللجوء السوري الذي يمثله نحو مليون ونصف المليون لاجئ. فيض الموائد يسد الجوع ينعم في اليوم الواحد أكثر من 1500 شخص في هذه المطاعم بطبق رئيسي مع سلطة وفاكهة، وغيرهما مما تيسّر. فلا تقف مُـؤن هذه الفروع على تبرعات أهل الخير فقط، فالوجبات الطازجة والمطابقة للمواصفات الصحية والإنسانية، التي تقدمها مختلف مطاعم وفنادق لبنان من المأكولات الفائضة التي لا تزال بحالة جيدة، يُعاد تقديمها أيضاً بصورة لائقة. نفاد الوجبات ربّة المنزل المتطوعة كارول بو صقر، تقول إن فكرة تقديم الطعام مجّاناً لطالبيه، جذبت الكثير من الأمهات والسيدات اللاتي يعمدن إلى تقديم وجبات يُحضّرنها في بيوتهن، أو يهرعن إلى المساعدة في تقديم الأكل في المطاعم، من الاثنين إلى الجمعة. أما الندُل فمعظمهم من طلاب الجامعات الذين يتناوبون على خدمة الزائرين، من دون أي تدقيق في هوية الزبائن أو طرح أي سؤال عن حقيقة أحوالهم أو دينهم أو انتمائهم، فالجوع لا يُفرّق بين مسلم ومسيحي، ولا بين لبناني أو سوري أو فلسطيني. وتشير بو صقر أيضاً إلى أن وجبات الطعام قد تنفد في بعض الأحيان. وما إن يتنبّه المتطوعون إلى أن ما لديهم لا يكفي حاجات ضيوفهم، حتى يهرعوا إلى شراء بعض المعلبات واللحوم. قصص يوحّدها الحرمان أم محمود وأطفالها الأربعة، الذين يتمتهم الحرب في سوريا، يقصدون يومياً مطعم «سعادة السماء»، حالهم حال كثيرين من السوريين. خالد هو أيضاً نازح من الريف اللبناني البعيد، أتى إلى العاصمة طلباً للعمل، افترش الطرقات وأرصفة الجسور، ترعاهُ اليوم الجمعية وتقدم له الطعام المجاني، ويعيش في مسكن خاص تؤمّنه الجمعية لكل مُشرّد. المنزل الذي يؤوي المشردين هو كناية عن بيت يفتح أبوابه ليلاً أمامهم، يغلقها صباحاً ويتابع ضيوفه عن كثب، مؤمّناً المساعدة النفسية والاجتماعية عند الحاجة. حلاقون متطوعون تُسطّر «سعادة السماء»، التي تضم مطاعم ومؤسسات عديدة تقدم خدمات مجانية أخرى لطالبيها، مثل المسكن وتنظيف الثياب وغير ذلك، سطوراً مُضيئة في حكايات وقصص الحرمان والبؤس الكثيرة، وهي قصص تختلف في الظاهر، لكن خيطاً واحداً يجمعها ويوحّدها. فعلى بُعد أمتار من مطعم «سعادة السماء»، يتناوب مجموعة من الحلاقين المتطوعين على تقديم كل خدمات الحلاقة للنساء والرجال مجاناً، من قصّات الشعر إلى الصبغ والحلق وتشذيب اللّحَى. ولأن النظافة من الإيمان، يستقبل الصالون الجميع دون استثناء. فأنطوان، على الرغم من أعوامه السبعين وظروفه الصعبة، يحب الاعتناء بمظهره الخارجي، كذلك يشعر اللاجئ الفلسطيني شافع، الذي يُمشّط الطرقات نهاراً بحثاً عن لقمة العيش، بالزهو عندما يتزيّن دورياً. «سعادة السماء» مُبادرة ولدت بدافع الإحساس بالآخر، فكيف لمن لا يملك ثمن رغيف خبز أن يهتم بشكله الخارجي؟