العصفور لا يثق بالغصن الذي يحطّ عليه، فقد يسلّمه الغصن لصياده. الصياد لا يثق بالبندقية، فقد تحوّل البندقية الطلقة إلى صدره. صدره لا يثق بالمرأة التي تتوسّده، فقد تكون تحلم أثناء ذلك بغيره. المرأة لا تثق بالرجل الممسك بيدها وهما يسيران تحت المطر، فقد يكون فاتحاً قلبه في السر مظلة لامرأة أخرى. الغيم لا يثق بالسماء، فهو لا يدري متى تُنهي السماء رحلته، ولا على أي أرض ستلقي به من عليائه مطراً. المطر لا يثق بالأرض التي يهطل عليها، فقد تهين سخاءه، وبدل أن تروي به الحقول، تمضي به سيولاً إلى المجاري. الأرض لا تثق بالإنسان، فهو مذ جاءها همّه أن يستحوذ عليها، وأن يحكمها بالحروب وإشعال المزيد من النار. النار لا تثق بالكبريت، لأنه بعود ثقاب واحد أشعلها، وما استطاع يوماً إطفاء دخانها. الدخان لا يثق بأمه النار، لعلمه أنها ستتبرّأ منه عند أول إشاعة، وتحرّض عليه الريح. الريح تتسلى بمشاكسة الغبار، لكن سعادتها في معاكسة ما تشتهيه السفن. السفن لا تثق بالماء، فهو يحملها على هودج الموج، من دون أن تفارقه نزعته للتسرّب إليها. فولاء الماء ليس للمراكب بل للبحر. البحر عنصريّ، لا يحب غير الكائنات البحريّة، لذا منذ الأزل يسعى لإغراق المراكب، كي يقدّمها قصراً للحيتان. الحيتان لا تثق بالبحر، لعلمها أنه عاشق غيور، أسكنها أكواريومه الشاسع ليتجسس عليها، ولن تستطيع الإفلات منه، وطلب اللجوء إلى الشطآن. الشطآن لا تثق بقلوب يرسمها المحبون على الرمال، لعلمها أنّ الموج سيمحو في الخريف وعود العشاق. العشاق لا يثقون سوى بما توشوشهم قلوبهم لحظة وقوعهم في الحب، إلى أن يكذّب قناعاتهم الفراق. تقول «أحبك يا امرأة» فأكذّب العصفور والصياد، والغيم والمطر، والنار والدخان، والبحر والحيتان، والموج والشطآن.. وأصدّقك. شيء فيك يجزم أنك آخر العشاق. وأنّ في إمكاني أن أتوسّد صدرك، وأمشي معك بأمان تحت المطر. أن أشتري لموعدي معك أحذية جديدة بكعب عالٍ، تثق بخطاي إليك. أن أكتبك على كل الدفاتر التي احتفظت بها فارغة ليوم مجيئك. أن أخرج أقلام زينتي لأتجمّل لك، وأقلام الكتابة لأكتب ما قلت لي وما قلتُ لك. أن أقنع القلم الذي لا يثق بوفاء الورقة، بأنني لن أسلّم لهفة حبره للممحاة، وأقنع ثيابي التي لا تثق بفرحة المحبين، بأنك عباءتي وقفطاني الأخير، وأنّ بسببك غيّرت الكائنات قناعاتها، وغدت تثق ببعضها!