برداء أسود يختصر كل الألوان، أطلّت في أول أوبرا عربية، مُذيَّلة بتوقيع الهيئة العامة للثقافة في المملكة العربية السعودية، ناسجة بعينيها السوداوين جسر عبور بين الموسيقى الراقية والجمهور التوّاق إلى اللغة التي تختصر كل لغات الأرض. هي المطربة والدكتورة ومؤلفة الموسيقى ومغنّية الأوبرا وأخصائية علم النفس، الفنانة اللبنانية هبة القوّاس، التي أحيَت مؤخراً حفلاً أوبراليّاً في جامعة الأميرة نورا بنت عبد الرحمن، في العاصمة السعودية الرياض.

انفتاح ثقافي هل الوقوف على مسرح سعودي مختلف؟ كان السؤال مُفاجئاً للقواس، لكنها تُجيب بمشاعر مختلطة قائلة: «يرغب أي مُبدع عربي أو عالمي في أن يكون جزءاً مُسهماً في انفتاح أي بلد ثقافي. فالانفتاح الثقافي يبني ويؤسّس لتاريخ ومستقبل، وكل إنسان يسعى إلى أن يكون جزءاً في هذا الممر، خصوصاً في أرض مُبارَكة، أرض الجزيرة العربية التي تحمل تاريخ 600 عام. وكلنا نعلم أن الحدث الأول يبقى أوّلاً. وسعادتي عارمة لأنني مررت أولاً ببلد أخذ قرار الانفتاح، لكنني أعترف بأني شعرت برهبة عارمة في تلك اللحظة التاريخية، مع ثقتي بأنه حين تشعّ المملكة بنُور الموسيقى والكلمة والصوت، فإن هذا سينعكس حتماً على العالم كله، لاسيّما العالم العربي لـمَـا لها من ثقلٍ مؤثر في الصّعُد كافّة». محطات خليجية وقفت هبة القواس من قبل مرّاتٍ عديدة، على مسارح خليجية عدة في دبي وأبوظبي وعُمَان والبحرين وقطر، وترى أن لكل مكان فيها خصوصية تتمتع بها، موضحة: «لا مكان يُشبه سواه في المطلق. هناك الحضارة القديمة في أرض «الدلمون» التي عُرفت لاحقاً بأرض البحرين، والتي عرّفها السومريّون بأرض الخلود التي غاص «جلجامش» في أعماق البحر فيها. وهذا أعطاها بُعداً أسطورياً وجعل من البحرين دولة مليئة بالإحساس على المستوى الثقافي. عُمان دولة قديمة جداً في جنوبي الجزيرة العربية، وتحتضن الكثير من التراث القديم والتنوع الجغرافي، وتصبّ في كل بقعة فيها روافد عدّة. وعلى رأس عمان سلطان يُحبّ الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا. أما في أبوظبي، عاصمة دولة الإمارات، فنشهد الحداثة ونشعر بكيان التطوّر المذهل في كل شيء. ثمّة إحساس مختلف رائع نعيشه في أبوظبي ودبي». أعمال خارجة من القلب ما دمنا تحدثنا عن دبي، نتذكر مَقُولة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي (رعاه الله)، الذي قال عن أشعاره بالشعر النبطي: «كل قصائدي نتيجة تجربة شخصية». هبة القواس غنّت من شعره المجبول بتجاربه، فماذا عن تجاربها هي في أعمالها؟ وكم تضع من قلبها فيما تُنجز؟ تجيب: «يستحيل على أي إنسان أن يقوم بعمل جيّد إذا لم يكن خارجاً من القلب، سواءً أكان عملاً موسيقياً أم مسرحياً أم شعرياً. صعبٌ جداً على أي إنسان له قلب، أن يقوم بعمل بلا معنى. وفي هذا الإطار أقول إنّ قصيدة «أنت الهوَى»، التي كتبها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، أعطتني نبضاً موسيقياً جديداً. موسيقاي أصبحت تشبه المكان الذي ولدت فيه القصيدة. هي أعطتني بُعداً جديداً، وأنا أعطيتها بُعداً عربياً أوبراليّاً». «هبة ستايل» يتردد أن مؤلفات هبة القواس جميلة جداً، لكنها صعبة ولا تُشبه سواها، هي «هبة ستايل». فهل تتقصّدين إضافة مؤثرات إليها تجعلها صعبة أم تُوَلد هكذا؟ تجيب: «هذه أنا. مؤلفاتي أنا. وأنا لست مع الافتعال مطلقاً، بل مع التلقائية دائماً. أشعر بأن الموسيقى تنزل عليّ مثل الدَّفق والطوفان. وأنا واثقة بأنه حين يدخل التفكير المفرط في المسائل يُعيقها، يدمّرها، لذا أنا مع الوحي والإلهام على المستوى الشخصي». ضرورة علم النفس أضافت هبة القواس إلى شهاداتها الموسيقية اختصاص علم النفس، وهو ساعدها في تعاملها كثيراً، وتقول: «أتواصل بطبيعتي مع كثير من البشر وأشعر بحدسي بهم. العلمُ أعطاني آليّات أضيفها أحياناً إلى حدسي فيتكاملان معاً». وتستطرد: «أصبحنا في زمن طغت فيه حساسيات الناس تجاه بعضهم، وزاد غرورهم ونقصت كفاءاتهم، لذا علينا أن نُحسن التعامل فيه مع الآخرين كي نتجنب مشاكل كثيرة». تجارب تتراكم التجارب في رصيد هبة القواس، وخبراتها جعلتها تخرج بفلسفة فيها أننا كلنا قنوات تجفّ في سبيل إيصال الرسالة، وتشرح: الموسيقى أصوات غير منظورة لا يمكننا الإمساك بها. الأصوات تأتي من خارج المكان، لكن الغرور الذي يتحكم فينا يجعلنا نتخيل أننا صنعناه بأنفسنا، غير مُدركين ألّا شيء يحصل إلّا بمشيئته». تحب هبة القواس الألوان، لكنها، في حفلها بالرياض، ارتدت اللون الأسود الجذاب، ولهذا في رأيها سبب: «الموسيقى تردّدات وكل لون له صوت وطنين وحالة وأجواء. أحب الألوان لكني اخترت الأسود لارتدائه في المملكة، لأنني أردت أن أعود للجذور التي تحمل الألوان، والأسود هو حاضن كل الألوان». سيرة وقفت القواس طفلة، ابنة أربع سنوات، على المسرح. واليوم بعد عقود، لا تزال هي هي. لا تزال تشعر بالرهبة نفسها في اللحظات الأولى التي تطل فيها على الجمهور، وتقول: «كنت طفلة خجولاً أخشى مواجهة الناس، لكن أهلي ألزَمُوني في صغري باللعب أمام الآخرين على «البيانو». كنت أبكي أحياناً. لكن المواجهة بالموسيقى جعلتني أتخطى الخجل». عاشقة للموسيقى الخليجية التقليدية القديمة. تحب سماع موسيقى البحّارة في البحرين. تعشق هذا النّمط. وفي سلطنة عُمان تعشق التنوّع الموسيقي هناك، وتشرح: «الموسيقى في جنوب عُمان، غير شمالها، غير المنطقة الشرقية، غير نجد والحجاز. وكل نمط في المنطقة عمره آلاف السنين. ثمّة أساطير نسمعها عن الفنون الموسيقية هناك أثق بها، وبأن تلك الموسيقى والإيقاعات إعجازيّة آتية لروعتها من خارج الأرض. موسيقى لو اجتمع عشرات المؤلفين معاً يعجزون عن إنجازها».