في نوفمبر من عام 2005، توفّي المخرج العالمي مصطفى العقاد متأثراً بإصابته في تفجير إرهابي استهدف فندقاً في العاصمة الأردنية عمّان، وكان موجوداً يومها لحضور حفل زفاف بصحبة ابنته التي رحلت برفقته إلى جوار ربها. قبل يومين من كتابة هذا المقال، حضرت في السينما أشهر فيلمٍ أخرجه العقّاد: «الرسالة»، والذي عُرض بمناسبة عيد الفطر بتقنية 4K بعد 42 عاماً من إنتاجه، وعلى الرغم من أنني شاهدته مراراً وتكراراً لدرجة أنني أنطق بعض الجُمل قبل الممثلين؛ إلا أن تجربة مشاهدته في السينما أمرٌ مختلفٌ تماماً، حيث استحضرت شعور الجمهور الذي حضر العروض الأولى في صالات العرض في عام 1976، ومع نهاية الفيلم كنت أردّد في داخلي: رحم الله مصطفى العقاد، ولعن الله الإرهاب والتطرّف. أصبحتْ عادةً سنوية أن تقوم قنواتٍ عربية عدّة بعرض فيلم الرسالة بالتزامن مع بعض المناسبات كعيدي الفطر والأضحى والمولد النبوي الشريف ورأس السنة الهجرية والإسراء والمعراج. ولا أُبالغ حين أقول إن جزءاً كبيراً من ثقافتي التاريخية حول قصة الإسلام تشكّل بفضل هذا الفيلم الذي حمل الرسالة المحمدية مجدداً إلى مشارق الأرض ومغاربها، بعد أكثر من 1400 عام على بزوغ فجرها في مكة. لعل معظمنا يعرف قصة الفيلم، فهو يتناول بدايات البعثة النبوية وتكذيب قريش للرسول (صلى الله عليه وسلم) وإيذاءهم لأصحابه، ثم يحكي عن الهجرة وتأسيس المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، مروراً بالمعارك والغزوات وانتهاءً بفتح مكة ووفاة النبي عليه الصلاة والسلام بعد حجّة الوداع. عندما سُئل العقاد عن سبب صناعته لهذا الفيلم أجاب بأنه أراد أن يُعرّف الغرب برسالة الإسلام السمحة بعد أن لاحظ جهل الكثيرين منهم بهذا الدين، فكانت السينما هي أداة التواصل المُثلى، ورُبّ فيلم يُغني عن ألف محاضرة. وعلى الرغم من الهدف النبيل للمخرج الراحل؛ إلا أنه واجه صعوباتٍ لا تصدّق قبل وأثناء وبعد تصوير الفيلم، فبالإضافة إلى مسألة التمويل خرجت أصواتٌ غاضبة تعارض إنتاج الفيلم بسبب تجسيده شخصياتٍ لها مكانتها البارزة في التاريخ الإسلامي، على الرغم من أن الفيلم لم يُظهر أي صورةٍ أو صوت للنبي عليه الصلاة والسلام، أو حتى العشرة المبشرين بالجنة، وأحداثه مبنية على ما جاء في كتب السيرة المعتمدة، وقد أُخضع السيناريو لمراجعة من الأزهر ومؤسسات إسلامية أخرى. وعلى الرغم من كل ذلك؛ فقد وصل الأمر إلى حد تطويق موقع التصوير من قِبل الجيش في إحدى الدول العربية بعد تزايد المطالبات بإلغاء الفيلم، وحتى بعد اكتماله انهالت الفتاوى من كل حدبٍ وصوب لتحرّم عرض الفيلم في السينما، فانتهى به المطاف إلى أن يُعرض في كل بقاع الأرض باستثناء الدول الإسلامية! تم إنتاج نسختين عربية وإنجليزية من الفيلم، وقام ببطولة الأولى الممثل المصري الراحل (عبد الله غيث) في دور حمزة بن عبد المطّلب، رضي الله عنه، وكان سبباً في تعلّقي الكبير بهذه الشخصية منذ صغري، حيث أظهر براعةً لا توصف في تمثيل دور الشجاع الذي يذود عن المستضعفين، ولا يخشى في الحق لومة لائم، ولا أذكر عدد المرات التي دمعت فيها عيناي مع مشهد استشهاده في غزوة أحد، وقد أُعجب بأدائه النجم العالمي (أنطوني كوين) الذي قام بأداء الدور نفسه في النسخة الأجنبية، وعُرف أيضاً بتجسيده شخصية (عمر المختار) في فيلم «أسد الصحراء» من إخراج العقاد أيضاً. في نهاية الفيلم؛ يجتمع المسلمون في الحج للاستماع إلى خطبة الوداع التي قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) في بدايتها: (أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربكم…)، وهي الوصية التي لم يلتزم بها أولئك الذين ادّعوا أنهم يحملون راية الإسلام، وفجّروا وسفكوا الدماء التي حرّمها الله ورسوله، وكان العقاد، رحمه الله، إحدى ضحاياهم، لكنه رحل وبقيت رسالته، وليتهم فهموا تلك (الرسالة). تذكرة لي ولكم مع بداية الفيلم في السينما، كان هناك طفل يصرخ ويبكي في صف المقاعد الذي يقع خلفنا، ولم تُفلح محاولاتي في التنحنح والتأفف والالتفات في جعل والديه يفهمان أننا منزعجون من صفارات الإنذار التي يُطلقها ابنهم، والتي تجعل أي زوجين سعيدين يفكران ألف مرة قبل اتخاذ قرار الإنجاب، وبعد مرور قرابة ربع الساعة، حمل الأب طفله أخيراً وخرج به من القاعة، ولم يعد أبداً إلى حين انتهاء الفيلم الذي تجاوزت مدته ثلاث ساعات. وبقدر انزعاجي في البداية؛ كان احترامي لهذا الرجل الذي ضحّى بمشاهدة الفيلم لكيلا يفسد على الآخرين مشاهدتهم، وأحيّيه من منبري هذا أينما كان، وأرجو أن يكون ابنه قد توقّف عن البكاء أخيراً.