واثقة الخطى تَدخُل الشابة نسرين أكيوز يومياً نادي الرياضة، تركض نحو الحياة وتتنقل بخفّة بين التمارين، مستندة إلى طرف اصطناعي بعد أن أفقدتها رصاصة طائشة ساقها اليمنى قبل 26 عاماً. هي اليوم تدفع وبقلب من فولاذ كل العوائق، لتحقق حلمها وتصبح أول مدربة رياضية بساق اصطناعية في لبنان والشرق الأوسط.

لا تذكر ابنة السنتين لون فستانها في ذلك اليوم الحار من شهر أغسطس من عام 1992، ولا كيف قضت نهارها الطويل. ولكنها تذكر جيداً الوجع الحارق الذي اخترق ساقها الصغيرة مع حلول الظلام. يومها لم تكن تعرف شيئاً عن الانتخابات ولا عن المرشحين، كانت منهمكة بألعابها الصغيرة التي لا تشبه ألعاب الكبار. أصيبت نسرين برصاصة ابتهاج طائشة، تسللت مع انطلاقة مهرجان انتخابي في بيروت نهشت جسدها الصغير، وأدخلتها المستشفى شهوراً طويلة، لتخرج بعدها على ساق واحدة. عندما تتحول العلّة إلى مصدر قوّة غالباً ما تقلب نسرين صور طفولتها وتتوقف عند آخر صورة لها «بساقين»، تنظر طويلاً إلى هذه الطفلة التي عانت الكثير، وتدمع فخراً بالمرأة القوية التي هي اليوم. نسرين التي لم تقتلها الرصاصة ترفض أن يقتلها المجتمع، وتسعى جاهدة إلى كسر كل الحواجز المعنوية والجسدية التي تعترضها. من ساقها المبتورة تستمد نسرين القوة، وتؤكد أن إعاقتها هي اليوم دافعها إلى النجاح والمثابرة والتحدي. هي التي تصالحت مع ذاتها وتقبّلت مصيرها بمساعدة أهل احتضنوها وناضلوا إلى جانبها، ونجحوا في جعلها تحب نفسها أولاً، وتحب ساقها المبتورة من دون خجل. نسرين ترتدي ما تشتهيه من الثياب والفساتين، ولا تتردد أيضاً في انتعال الكعب العالي، تذهب إلى البحر وتحيط نفسها بأصدقاء يرون فيها القدوة في حُب الرياضة وحبّ الحياة. الضربة التي لا تقتلك تزيدك قوّة تتحدّى نسرين نفسها أولاً ثم مجتمعاً يشفق عليها، إلّا أنها تعلمت مع الوقت كيف تتجاهله. لم تعد تزعجها نظرات الناس الفارغة وتعليقاتهم السطحية أو أسئلتهم الساذجة. تقول: «سُئلت مراراً كيف أصعد الدرج؟ كيف ألبس الطرف الاصطناعي؟ هل أنام به؟ حتى إنّ هناك مَن سألني إنْ كنت أستطيع الإنجاب! تنظُر نسرين إلى الجانب المشرق من حياتها، وتشكر الله على كل نعَمه، ترمي وراءها كل ما يجرحها، وتردّد مع الملاكم العالمي محمد علي كلاي، مقولته الشهيرة «لا عيب في أن تسقط أرضاً، بل العيب في أن تبقى على الأرض». وفي الحب.. لا تتحدث نسرين عن خيبات عاطفية، بل عن علاقات علّمتها الكثير، تُخبر عن شاب حاول التودّد إليها ولم يخفق له قلبها، بادرت إلى إخباره كم هو عزيز كصديق، ليُسارع ويصفها بالمتعجرفة صاحبة الساق البلاستيكية. يومها لم تَبْكِ نسرين ولم يتحطم فؤادها، فمن استقرّ نظره عند ساقها المبتورة لا يستحق أن تنظر إلى الأسفل لتردّ عليه كما تقول. قصة نجاح تُلهم كثيرين نسرين اليوم شخصية مؤثرة في وسائل التواصل الاجتماعي، ومُلهمة لمن يعانون حالات مشابهة، فقد تخطّى عدد متابعيها الخمسة عشر ألف شخص على «انستجرام»، يتواصلون معها من كل أنحاء العالم، من فلسطين والإمارات وفرنسا وأوكرانيا، يستمدّون منها القوة والعزم والخبرات، كونها قصة نجاح في حد ذاتها تخطت الصعوبات الجمّة. أما هي فتستلهم من مثيلتها البرازيلية باولا أنطونيني، ومن جيسيكا كاين، التي تُلهب بساقها الواحدة مسرح رقص النجوم بنسخته الأسترالية. إلى العالمية أصول نسرين التركية تفتح أمامها اليوم الأبواب إلى العالمية، هي التي تقترب من حلمها بتدريب الفريق التركي لكرة السلة في بطولة أوروبا، بعد أن لاقت ترحيباً من كابتن الفريق التركي الذي يُشارك في البطولة. جُلّ ما تخشاه في هذه المرحلة أن تخذلها ساقها وتقف حاجزاً أمام قدرتها على تطبيق أي من التمارين الرياضية، فهي تصرّ دائماً على مُطاردة حلمها حتى النهاية.