بمجرّد الإعلان عن فوز The Shape of Water بأوسكار أفضل فيلم في مارس الماضي، حتى علَت صيحات الاستنكار والدهشة من كل حدبٍ وصوب، وظهرت خطابات الشّجب والتنديد على مواقع التواصل، ونُصبت الخيام لتلقّي التعازي في المُصاب الجلل، وندمَ الذين سهروا - لمتابعة الحفل - على سهرهم، وتمنّوا حتى آخر لحظة أن يكون الإعلان مجرد خطأ كما حدث العام الماضي في الواقعة الشهيرة بين فيلمي Moonlight وLa La Land، لكنّه كان المغلّف الصحيح هذه المرة، وطارت الطيور بأرزاقها، ورُفعت الأقلام وجفّت الصحف. كنت من بين الكثيرين الذين تمنّوا فوز Three Billboards Outside Ebbing Missouri بالجائزة، وما زلت أرى أنه الأجدر بها، لكنه لم يكن المظلوم الوحيد في الحفل، ففي رأيي أن فيلم The Shape of Water تعرّض للظلم بطريقة غير مباشرة، والسبب هو أنهم ألبسوه ثوباً أكبر من مقاسه، فهو فيلمٌ جميل، لكنه لا يرقى للحصول على الأوسكار، مما جعل الأغلبية تشاهده بتوقعاتٍ عالية، وتحاكمه من هذا المنظور، فتتفرّغ لتصيد سلبياته والحطّ منه. الأمر أشبه بأن تُعلن أمام الملأ بأن نيمار هو أفضل لاعب في العالم حالياً، فكيف تتوقع أن يتقبّل الناس هذا التصنيف في وجود رونالدو وميسي؟ حتماً سيسخرون من نيمار، وسيعلّقون له المشانق في كل هاشتاق، وسيحوّلونه بين ليلةٍ وضحاها إلى لاعب درجة ثانية يعرج في الحارات الفقيرة، فقط لأنه لا يستحق المركز الأول، لكن هل يعني ذلك أنه سيئ؟ تدور أحداث الفيلم في حقبة الستينات، وتتناول قصة فتاة بكماء تُدعى (إليزا)، وتعمل ضمن طاقم التنظيف في منشأة أميركية متخصصة في الأبحاث والتجارب العلمية. تبدأ الإثارة حين يصل إلى المختبر مخلوق غريب كان يعيش في مياه أميركا الجنوبية ويُصنّف بأنه بالغ الخطورة، وتنشأ بينه وبين (إليزا) علاقة تبدأ بالتفاهم بلغة الإشارة وتتطوّر شيئاً فشيئاً إلى الوقوع في الحب، قبل أن تحاول بطلة الفيلم إنقاذه من مخططٍ سيؤدي إلى قتله. لعل أول ما يتبادر إلى ذهنك الآن هو فيلم «الجميلة والوحش»، وعلى الرغم أن الفكرتين تتشابهان ظاهرياً؛ إلا أننا أمام عمل مختلف كلياً من ناحية التنفيذ، حيث إن الفيلم يغرق في أجواء من الفانتازيا الشاعرية، وتشعر أثناء مشاهدته بأنك وسط حلم ستفيق منه بمجرد أن تتوقف الموسيقى التصويرية، ولا بدّ هنا أن نُشيد بالمخرج ديل تورو الذي صنع صورةً سينمائية ساحرة وحصل بسببها على أوسكار أفضل مخرج. لعلّ أكثر ما يثير الجدل بعد حفلات الأوسكار الأخيرة؛ هو أن الجائزة بدأت تفقد مصداقيتها بعد أن صارت تنحاز للأفلام التي تدعم قضيةً ما، وتعطي ظهرها للأفلام التي تركّز على الصناعة الفنية والجمالية، فهناك قضية العنصرية ضد السود ثم قضية دعم المثليّين والآن - وبحسب رأي البعض - قضية الترويج لعلاقةٍ جنسية مع حيوان في فيلم The Shape of Water. وبغضّ النظر عن كل هذا؛ فأعتقد أن هناك بُعداً آخر أكثر شمولية وترتكز عليه قصة الفيلم، ألا وهو: الوحدة. قرأت قبل فترة كتاب (المدينة الوحيدة) لـ أوليفيا لاينغ، وتتناول فيه تجربتها في العيش وحيدةً في نيويورك، محاولةً استكشاف خفايا الشعور بالوحدة من خلال استعراض وتحليل أعمال بعض الفنانين الذين عاشوا في المدينة نفسها، وعانوا الوحدة أو العزلة أو الإقصاء الاجتماعي لأسباب مختلفة. تقول أوليفيا: «أغلب ما كان يجعلني أشعر بالوحدة هو اللغة، حاجتي للتواصل، للفهم، ولشرح ذاتي عبر وسيلة الكلام». في فيلمنا الأوسكاري؛ قد ننظر إلى البطلة باعتبارها (أوليفيا)، فعدم قدرتها على الكلام جعلها تتقوقع في عزلتها، لتجد في المخلوق المائي الشريك الأمثل، بصفته وحيداً أيضاً في بيئة غريبة، ولا يستطيع كلاهما التحدث إلا بلغة الإشارة. كما أن هناك الرجل الخمسيني أو الستيني الذي يعيش برفقة (إليزا) ويشعر بالوحدة لكونه مثلياً ومنبوذاً من المجتمع.. إذن؛ نحن أمام ثلاث شخصيات يجمعهم الشعور بالوحدة. إن لم تكن قد شاهدت The Shape of Water بعد؛ فأرجو من كل قلبي ألا تحكم عليه بصفته فائزاً بالأوسكار، بل اعتبره كأي فيلمٍ أوصاك به صديقك أو وقعت عليه صدفة وأنت تقلّب بين القنوات. كما أنني أدعو الله قياماً وقعوداً بألا يخرج عليّ أحدهم من حيث لا أحتسب ويتهمني بأنني أدعم (الشذوذ) وأنني أروّج لممارسة الجنس مع أسماك الهامور والكنعد والتونة!