ماذا لو قلت إننا لا نعرف الشيء الكثير عن مي زيادة على الرغم مما كُتبَ عنها؟ القليل منا يعرفون مثلاً أنها اقتيدت ظلماً إلى مستشفى المجانين، العصفورية، من خلال مكيدة عائلية منظمة سلفاً. عندما حاولت الكتابة عنها روائياً، كان في رأسي أمران: ألا أكرر ما قيل عنها، وأن أرفع عنها، قدر ما أستطيع، ظلماً ثقيلاً سلط عليها بعنف، وأستجيب بذلك لصرختها القاسية: أتمنى أن يأتي، بعد موتي، من ينصفني. من هنا أنا على يقين أن مي لا تحتاج إلى كتاب آخر يثقل قبرها، ولكن إلى من ينفض هذا التراب عنها، ويمنحها فرصة النزول إلى شارع الحياة، والاحتجاج في وجه من ظلموها. الإبداع وحده اليوم من يمنحها هذه الفرصة من خلال فعل التخييل، لأنه الفعل الأكثر حرية. شعرتُ وأنا أكتشف خيوط اللعبة القاتلة، أن مي تحتاج إلى رواية تمنحها الحياة من جديد لنتمكن من سماع صوتها كما لو أنها موجودة بيننا اليوم.

كنت أحتاج فقط إلى أن أجعلها تتكلم، وأقف على حافة الصوفة التي تجلس عليها، وأستمع لشجيها ونداءاتها وصوتها المخنوق في مواجهة مأساة ظالمة لم تكن لديها فيها أي مسؤولية. العصفورية سرقت عمرها، لكن أشباه الأصدقاء أيضاً، أجهزوا عليها. لم يكن سبب مأساتها، ابن عمها جوزيف الذي اقتادها إلى العصفورية، ولكن أيضاً فيمن كانوا يحيطون بها من عشاق صغار، أنانيين، وغير صادقين، قبل أن تفضح مأساتها التي تعقدت، بؤسهم الكبير جميعاً.

لا يكفي المرء خطاب الحداثة ليكون حداثياً، ولكن أن يمتلك القدرة على كسر كل البلادة الموروثة من الأزمنة الآفلة. حزام من المحبين الذي كان يطوق مي زيادة، ويحضر باستمرار صالونها كل يوم ثلاثاء يتحمل مسؤولية مأساتها. لنا أن نتخيل قليلاً، امرأة واحدة ووحيدة في مجتمع ذكوري، معتد بذكورة مهزوزة في أعماقها سياسياً وعاطفياً أيضاً. كيف تكون هذه المرأة بين من صنعوا الحداثة أو أقطابها؟ طه حسين، مصطفى صادق الرافعي، عباس محمود العقاد، سلامة موسى، لطفي السيد وغيرهم. الذين ظلوا يتناقشون في كبريات القضايا التي لم تحل في ذلك الوقت، الشرق والغرب، حرية المرأة، قضية الحجاب ومشكلاته، مأساة الاستعمار، التعددية الدينية في البلاد العربية، عقلية الهيمنة وغيرها من موضوعات الساعة، لكن لا أحد أعاد النظر في داخله المهزوز والمرتبك.

لم يكن مجلس الثلاثاء فقط للنقاشات الكبرى، ولكن أيضاً لزحلقة الوريقات السرية، والرسائل القصيرة لمي زيادة التي كان سحرها وجرأتها الثقافية يؤهلانها لفرض جاذبيتها النسوية. أغلب رواد الصالون كانوا يتركون زوجاتهم في البيوت ويحضرون لقاءاتها. كانت مي من الناحية الرمزية، اختباراً لقدرات المثقفين على تحمل امرأة مثقفة وقوية الشخصية. الكثيرون من أصدقائها اقترحوا عليها الزواج شرط أن تبقى في البيت، بينما ظلت مي زيادة ترفض فكرة الزواج وهي المشبعة بالفلسفات العالمية التحررية، والأفكار الجديدة والأدب الفرنسي الذي دفعها إلى الكتابة باللغة الفرنسية باسم مستعار، إيزيس كوبيا.

نشرت ديواناً بالفرنسية أزاهير الحلم. لكنها أدركت في وقت مبكر أنها خلقت لتكون أديبة عربية واسعة الأفق، فانتهجت الطريق الأسلم الذي جعل منها اليوم كاتبة عربية مهمة. عندما رفضت طلبات المتقدمين السريين لها، عاداها كل واحد بطريقته. طه حسين لم يكلف نفسه الدفاع عنها عندما اقتيدت إلى العصفورية بتهمة الجنون، على الرغم من نداءات الاستغاثة. بل دخل في حلقة المؤكدين على جنونها.

العقاد غادر جلسات الثلاثاء أو الصالون بسبب انزعاجه من الكثيرين ومنهم الرافعي وعلاقتها الروحية مع جبران. الرافعي توقف عنها بعد أن يئس من حبها على الرغم من دواوينه الكثيرة التي كتبها عنها. سلامة موسى الذي وظفته في جريدتها بعد تخرجه من بريطانيا، وقف ضدها بعداوة حاقدة، وأشاع عنها أبشع الصور. لم يرحموها حتى عندما فقدت ملهمها وحبيبها الذي ارتبطت به بقوة، والدها.

ثم فقدت بعده صديقها الأعز، جبران، قبل أن تنهار بشكل كلي بعد وفاة والدتها. لم يعد هناك ما يهمها وبدأت تفكر في العودة إلى بيروت. وجاءت الجريمة التي أنهكتها عندما زج بها ابن عمها جوزيف إلى العصفورية قرابة السنة. كان عليها أن تواجه مرارتها بكبرياء المرأة التراجيدية المعزولة، حتى الموت. ماذا لو قُيِّضَ لمي أن تنشر رسائلهم وقصاصاتهم؟ سؤال سيظل معلقاً إلى أن تفكه الأقدار والصدف.