«أكتب هذه الكلمات عَلّك تقرئينها.. أنا جندي على إحدى الجبهات في بلدي الجريح سوريا، الذي لا يخفَى على أحد حاله، ولا أعرف في أي ساعة تكون نهايتي، وليس لديّ سوى طلب صغير، كم أتمنّى أن أحصل عليه. أحب فتاة وتحبني وهي خطيبتي وستكون زوجتي بإذن الله، وهي تحب قراءة كتبك كثيراً، أما طلبي فهو أني أرغب في نسخة من أحد كتبك يكون موقعاً بخط يدك، أهديه لحبيبتي الغائبة الحاضرة في عيد ميلادها، ليتك تُسعدينها نيابة عني. هذا كل ما أريد سيدتي، أدعو أن تقرئي رسالتي وتُجيبيني. أنا من اللصوص الذين يقرأون كتبك الموجّهة إلى النساء. كم أحب قولك (أولئك الرجال الرِّجال الذين بقدومهم تتغيّر الأقدار)». هل أكثر تأثيراً من رسالة يبعثها جندي من الجبهة بين معركتين، راجياً كتاباً موقّعاً يهديه لحبيبته، كي ينوب عنه في قول ما لا يملك من الوقت لقوله في حضرة الموت. هذا المجنّد السوري العاشق، المثقف كما هم شباب سوريا، والذين ألقت بهم الحرب إلى محرقة ليس نارها الحب، يواصل في رسالته هذه تاريخ العشاق المجندين عبر العصور بشجاعتهم وهشاشتهم الإنسانية، في كل حروب خاضتها البشرية. يُطاردون الحب هرباً من موت يطاردهم، يتمسكون بتلابيب امرأة لأن الخوف يتعقّبهم، والذعر يسكنهم. لا يترك لهم القلق فرصة للتألق اللغوي، يكتبون وجعهم كما يعيشونه. أمام احتمال الرحيل الأخير، الصدق هو الكلمة الأجمل التي تخترق القلب، فما نفع تنميق الكلمات، بالنسبة إلى من يكتب بروح عارية، هل أكثر فصاحة من الألم؟ إنها فاجعة الحروب، صانعة البطولات والرجالات، في السياسة كما في الأدب. ألم يُعرّف موديانو الحائز جائزة نوبل للآداب نفسه بأنه «ابن الحرب»؟ «الحرب» بحرف واحد تشطر كلمة «حب»، وتُباعد بين العشّاق، لأشهر لأعوام أو للأبد، فتتفجر أمام الفراق ينابيع الأدب. في إحدى رسائله الملتهبة، كتب سارتر لسيمون دو بوفوار أيام تجنيده: «لا أريد أن أتركك خلفي في هذا العالم. أشعر بالاطمئنان لأنك وعدتني أنه إذا ما حدث شيء لي فلن تعيشي بعدي». لعل سيمون أدركت باكراً بذكائها الأنثوي أن الرجل المجنّد يهذي لحبيبته بأشياء كثيرة، ويعدها في مواجهة الموت بوعود كبيرة، ستكذّبها الحياة لاحقاً حين عودته من الجبهة. في سرّه هو يريد أن تعده حبيبته أو زوجته بكونها كما في تقاليد الهندوس، ستقوم بإحراق نفسها إن بلغ خبر موته، لتغادر الدنيا معه ولا يتمتع بها رجل سواه. إن كانت سيمون التي توفيت عن 78 عاماً، قد ظلت وفيّة لسارتر الذي لم يتزوجها، وقضت السنوات الست التي عاشتها بعد وفاته في انتظار أن يضمّهما قبر واحد. فعلى الرغم من حب دام نصف قرن، كان سارتر أول من أخلف وعده، وخانها كثيراً، بذريعة زواجه من الفلسفة! الهاجس الرجالي نفسه يبدو واضحاً في رسالة بعثها من الجبهة رونيه شار، شاعر فرنسا إلى حبيبته: «إذا متُ هنالك على الجبهة فقد تبكين يوماً واحداً يا حبيبتي ثم تنطفئ ذكراي كما تموت قنبلة منفجرة، إذا متُ يا حبيبتي هناك تذكّريني أحياناً في لحظات جنون الشباب والحبّ والاشتعال». الحب يتغذّى من خوف الفقدان، الذكريات بالنسبة إلى المجنّد أجنحة غير مرئية، يهرب بها من خندق حشرته فيه الحرب، ليحلّق هرباً إلى الماضي، وكل خوفه أن يشغل رجل آخر مكانه.. وأن يُنسى: «ستعيشين يا امرأتي وذكراي كدخان أسود ستتبدّد في الريح، ستعيشين يا أخت قلبي ذات الشعر الأشقر، فالموتى لا يشغلون أكثر من سنة». إنها القصيدة الشهيرة التي كتبها ناظم حكمت لزوجته من السجن، والتي كثيراً ما أكدت الحياة صدق نبوءتها!