كل إنسان مَنُوط بما خُلق له، فهناك من صنعت أقدارهم أعماراً أخرى، وهناك الكثير من العابرين في هذه الدنيا، يأتون ويمضون وتكون أكبر إنجازاتهم، أبناء عاشوا من بعدهم فقط، وهنا حتى هذا الإنجار لم يُدركه كله وله أسبابه.

فمن المفارقة اللطيفة، أنه قد وصلني من الناقد الفني الكبير والصديق المبعد طارق الشناوي، وأنا كنت أتابع لقاء له في اليوتيوب حول عبقري الموسيقى العربية بليغ حمدي، حيث أشار إلى أنه من دراويش بليغ حمدي، وهذا الوصف، من ناقد بقامة طارق الشناوي، يختصر مكانة وأهمية بليغ بالموسيقى العربية.

من هنا أتتني فكرة القبور المفتوحة، وهي أن الراحلين في أي مجال إبداعي لا بد أن يتركوا خلفهم إنجازهم، وما إن يقوم أي قارئ أو مُتابع بفتح هذا القبر، فإنه سيلتقي بالكاتب أو المبدع حسب نبوغه، وتتجلّى هذه الرؤيا في الشعراء والكتّاب والمفكرين أكثر، حين يتركوا كتباً من بعدهم، تمثل قبراً قابلاً للفتح، ما إن يفتح القارئ ديوان الشعر، حتى يُعيد الحياة للشاعر فيلتقي به، يعرف ماذا قال في الوطن، وماذا قال في الحبيبة والسفر والحزن والفرح.

وهذا ما ينطبق على الكاتب والروائي، فحين نفتح رواية لكاتب راحل فإننا نلتقي مع مشاعره وفكره وخياله وثقافته، فتتحقق مقولة شوقي حين قال:

دقات قلب المرء قائلة له

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها

إنّ الحياة دقائق وثواني

فالذِّكْر للإنسان عُمرٌ ثاني

منهناقدوجدتإجابةعلىسؤالالكثيرمنالأصدقاء،حينيعتبونعليّلعدمتواجديالدائمإعلامياً،وأناقداخترتمنفترةأنأكونمَعنيّاًبماأتركهمنبعدي،أكثرمماأشغلبهنفسي،علىالرغممنأهميةالحالتين.

يُقال إن المتنبّي قد توفي، وأنا أتعجب من هذا الكلام الناقص، فكان يجب أن يقال مات هيكل الطين للمتنبي فقط، ورحل هيكل الطين لنزار ولدرويش، فما زلنا نلتقي بهم مشاعر وفكراً وثقافة حين نفتح قبورهم، أو نُمزّق أكفانه بمجرد أن نفتح ديوان أحدهم ونقرأ.

والكاتب الأقل شهرة من الملحن والمطرب هو أكثر حظاً منهم، بعد رحيلهم جميعاً، لقد ابتكر الغرب لنا ذاكرة اليوتيوب وقبلها ابتكر لنا الأشرطة، وقبلها الأسطوانة، ولكن تطور الحياة جعلنا لا نثق بالتسجيلات كثيراً، أو نعول عليها للخلود، فمن كان فرحاً بالأسطوانات قديماً، تطور الزمن وجاءت الأشرطة فمحت ذاكرة الأسطوانة، وما كان فرحاً بالأشرطة من الفنانين، جاء نظام الـ«سي.دي» المتطور ومَحَا الأشرطة، وأخفى آلات التسجيل التي يُمكن من خلالها سماع الأشرطة.

(وللحديث تكملة).

تمشي ويَعرفكَ الكثيرُ

وأنتَ تَقنعُ بالقليلِ مِن الرجالْ

ما زالَ وجهك يَستجيرُ

يُجاذبُ الأقمارَ يمنحها ابتهالْ

يرتادكَ اللحنُ الأخيرُ

إذا تأنْسَنَ بالظِّلالْ

***

تمشي ويعرفك الكثيرُ

وأنتَ تقنعُ بالقليلِ من الرجال

وبالأقلِّ من النساءْ

يا سامريَّ العصرِ

دَعْ زمنَ البطولة يستديرُ لمن يشاءْ

فليرَحِم اللهُ زمانَ الشعراءْ