لنكُن واقعيين، حتى لو التزمتُ بأكلٍ صحي طيلة ما بقي من حياتي، واستبدلت شطائر البرجر بسلطة الفواكه، والبطاطس المقلية بقطع البروكلي، والزيوت المهدرجة بزيت الزيتون، وشربت لترين من المياه قليلة الصوديوم يومياً، ومارست رياضة المشي بانتظام، ونعمت كل ليلة بثمان ساعات من النوم الخالي من الكوابيس، وحظيت بوظيفة مرموقة، ونشرت كتباً تُرجمت لثلاثمئة لغة، وتزوّجت امرأة أحبها، وأنجبت أبناء بارّين، وبدأت أعطي محاضرات عن الإيجابية والسعادة، وكوّنت ثروة تكفي لأتقاعد مبكراً في كوخ ريفي، وفوق ذلك كنت أحمل جينات يابانية، فإن هذا كله لا يكفي لأعيش حتى 2115، وهي السنة التي سيُعرض فيها فيلم غير مسبوق، وإن حدث وعشت حتى ذلك الحين من دون أن أُصاب بالخرَف، فسأبحث عن هذا المقال لأضحك بشدة على العنوان، أو ربما لأبكي بمرارة. في عام 2015 أُعلن عن الانتهاء من تصوير 100 Years..The Movie You Will Never See، من إخراج روبرت رودريغز، وكتابة وبطولة جون مالكوفيتش، والمثير بشأن هذا الفيلم أنه لن يُعرض إلا بعد مئة سنة من تاريخ إنجازه! ولهذا الغرض، فقد وُضع في كبسولة زمنية محفوظة في خزنة متطورة في مدينة كونياك الفرنسية، وستُفتح تلقائياً في الثامن عشر من نوفمبر 2115، لتحظى الأجيال القادمة بمشاهدة محتواها، إلا إذا كانوا قد انتقلوا إلى المريخ، أو انقرضوا نتيجة لانتشار إنفلونزا السلاحف أو شيء من هذا القبيل. قصة الفيلم سرية، ولا نعرف عنها سوى أنها مبنيّة على تصوّر للمستقبل من وجهة نظر معاصرة. هناك ثلاثة إعلانات ترويجية للفيلم تُظهر ثلاث مظاهر مختلفة للحياة بعد مئة عام، ما بين عالم أسمنتي قاتم على الرغم من تطوره، وآخر يُشع بأضواء النيون المتحركة بسرعة فائقة، وثالث مغطى بالنباتات والأشجار التي زحفت فوق الحضارة العمرانية، ولا تكشف هذه المقاطع عن أي من أحداث الفيلم، بل تُطلعنا فقط على جون مالكوفيتش، وهو يضع الكبسولة في الخزنة قبل أن يعود لفتحها في 2115، ويتكرر ظهور شخصين آخرين معه في كل إعلان. هذه المحاولة الفريدة للتنبؤ بالمستقبل تذكرني بما قرأته سابقاً عن «صندوق القرن» وهو عبارة عن كبسولة زمنية دُفنت في مدينة ديترويت عشية رأس سنة 1901 وفُتحت مطلع عام 2001، وكانت تحوي توقعات من الماضي لما ستبدو عليه الحياة بعد مئة عام، بالإضافة إلى رسالة من عمدة المدينة آنذاك إلى العمدة في القرن الجديد، كما أن هناك كبسولة زمنية أخرى في نيويورك أُغلقت في 1938 وتُفتح بعد خمسة آلاف سنة! وتحتوي على بكرة خيوط ودمية لإنسان ومقادير معينة من الشعير والأرز، وقاموس و«ميكروفيلم» وأشياء أخرى. قد تكون تصوراتنا للمستقبل في فيلم 100 Years سخيفة بالنسبة إلى من سيشاهد الفيلم، فنحن الآن نضحك على رسومات الماضي التي تنبأت بأن رجال الإطفاء في زمننا سيحلقون في الهواء بأجنحة صناعية، والرسومات التي تُظهر سيارات طائرة يتمناها يومياً آلاف العالقين في زحمة طريق (دبي - الشارقة)، وعلى الرغم من أن بعض التوقعات قد تُصيب، إلا أنه من المرجح أن يكون الفيلم ذو طابع هزلي، وقد يتحول الأمر إلى كوميديا سوداء إن كان العالم في الشاشة أفضل بكثير مما هو عليه في الواقع. يقول المخرج رودريغز إنه أراد أن يصنع مع مالكوفيتش فناً غير مقيد بزمن، ويمكن أن يستمتع به المشاهد بعد مئة سنة، وهذا أعاد إلى ذهني مقولة قرأتها للشاعرة الأميركية ماري أوليفر: «أكتب القصائد لغريب سيولد في بلد غريب بعد مئات السنين». أغبط من الآن كل أولئك الذين سيشاهدون هذا الفيلم في المستقبل، ولا أدري كيف سيكون شكل السينما حينها، لكنني أستطيع تخيّل وجوه الحاضرين المتلهفين لتلقّي رسائل من الماضي، وكم سيبدو المشهد شاعرياً حين تظهر مع الموسيقى الختامية أسماء الذين عملوا على الفيلم وقد رحلوا جميعهم إلى حياة أخرى، أو ما زالت أرواحهم هائمة في القاعة التي سيشتكي الجميع من برودتها في ذلك اليوم.