عبد الرحمن الحميري

أعرف ما تفكّر فيه: فيلم هندي، مما يعني أغنية استعراضية كل ربع ساعة، ترافقها رقصة بهلوانية ينخرط فيها البطل والبطلة والأقارب والأصدقاء، وبائعو الدكاكين وراعي أغنام في قرية جبلية بعيدة، وحشدٌ من لاعبي السيرك الذين لا تدري من أين خرجوا وأين اختفوا، ثم فاصل استراحة في السينما تتفقّد فيه هاتفك، الذي ستكون بطاريته قد نفدت بالطبع، قبل أن يُستأنف الفيلم بأغنية استعراضية كل ربع ساعة، ترافقها رقصة بهلوانية ينخرط فيها البطل والبطلة والأقارب والأصدقاء وبائعي الدكاكين و...إلخ. المهم أنك لن تغادر القاعة إلا وقد غربت الشمس أو أشرقت، وعلى وجهك نظرةٌ تقول: كم لبثنا؟! فيلم (ما وراء الغيوم) لا علاقة له بكل ما سبق، وهذا لا يعني أن أُنكر افتتاني بالأغاني والرقصات في أفلام الهنود؛ إلا أنها شكّلت لدينا صورةً نمطية عن السينما الهندية، وجعلتنا نغفل عن عالم مُواز آخر - ما خلف صخب بوليوود - ولا يقل سحراً عنها، فهذا الفيلم ينتمي إلى فئة الأعمال المستقلة ذات الميزانية المنخفضة، والتي تجوب المهرجانات الدولية مستهدفة جمهورها الخاص، وقد لا تنتبه إليها إلا صدفة كما حدث معي، لأن البطل ليس شاروخان أو سلمان خان أو أي ممثل آخر من آل خان الكرام. تدور أحداث الفيلم في مدينة مومباي، حيث يعمل الشاب (أمير) عند أحد تجار المخدرات، فيتسلم البضاعة ويُسلّمها إلى الموزعين والمشترين، ولم يَبْقَ من عائلته سوى أخته (تارا) بعد وفاة والديه في حادث سيارة. تتجه القصة إلى عقدتها حين تقوم (تارا) بحماية أخيها أثناء مطاردة الشرطة له، فينتهي بها الأمر إلى التورط دون قصد في جريمة قد تُعاقب عليها بالسجن المؤبد، بينما يعمل (أمير) من الخارج على إثبات براءتها.

الفيلم يتغلغل في الأحياء الفقيرة لمومباي، ويوظّف الحدث بصورة ذكية لإبراز البيئة، ونرى ذلك في الافتتاحية حين يتنقّل (أمير) بالدراجة في المدينة لتوزيع البضاعة المحظورة، بينما تضجّ المَشاهد بمظاهر الحياة اليومية ومشاغل الناس، وتغمرنا الألوان وأصوات الأبواق ورائحة التوابل، ونحن نشق طريقنا في الزحام خلف (أمير)، وكأنه يقول لنا: (تعالوا لأُريكم.. هذه هي مومباي!). هناك جو من البهجة يطفو على مشاهد الفيلم، ورغم مظاهر البؤس التي تنتشر هنا وهناك، إلا أنها تبدو روتيناً لا يؤرق أحداً، بل تدعو للسخرية وكسب القوت اليومي من الضحك، حيث نجد في أحد المشاهد صاحب دكان صغيراً يقول: (أعتقد أن عليّ شراء طائرة، المشكلة الوحيدة هي أين أوقفها).

لأول مرة في حياتي أشاهد فيلماً هندياً بصناعة إيرانية! فالمخرج هو الإيراني الشهير (مجيد مجيدي) الذي فاز بعشرات الجوائز الدولية، وقد شارك في كتابة هذا الفيلم مع (مهران كاشاني)، واستطاع ببراعة أن يضع يده على قلب الهند وينقل إلينا ثقافتهم من زاويته الخاصة وكأنه المُضيف لا الضيف. لعلّ أكثر ما لفت نظري هو فلسفة الصورة السينمائية التي يتمتع بها المخرج، فمن يشاهد الفيلم سيلاحظ تركيزه على تقنية تصوير الظل، والتي تضعنا أمام خيالات مطموسة الملامح، وتترك لنا حرية التصور وإكمال تفاصيل المشهد - كما كنا نفعل في دفاتر التلوين إبّان الطفولة - لتصل المشاعر بطريقة بلاغية، وكأننا نُعيد التعرف إلى هذه الشخصيات من جديد حين نراهم على هيئة ظلال، مُجرّدين من أي إسقاطات أو أحكام أو صلة تجمعنا بهم عدا عن كونهم بشراً مثلنا، وربما هذه هي الحقيقة الوحيدة التي تتبدّى (ما وراء الغيوم).