ثمة أكثر من 20 دولة في العالم من تلك التي يستعصي إيجادها على الخريطة من دون عدسة مكبّرة. منها ما أصبحت معروفة. مثلاً، لا يستغرب أحد حين يريد ذكر أسماء مثل موناكو وأندورا وليشتنشتاين وسان مارينو والفاتيكان ومالطة. والسبب: تقع هذه الدول الصغيرة الست في أوروبا.

وهناك أيضاً بلدان أسهمت السياحة في تعريفها. منها ما يسبح في مياه الكاريبي، كجزر باربادو وغرناطة والدومينيك. كما تضيع اثنتان منها في يمّ المحيط الهندي: جزر سيشيل (حوالي 1000 كيلومتر إلى جنوب شرق سواحل الصومال)، وجزر المالدي?، «القريبة» من جنوب الهند وسريلانكا.

لكن، منذ عقود، لوحظ «بزوغ» عدد من الجمهوريات المجهرية، كانت نقاطاً ضائعة في البحار والمحيطات، أغلبها يعود إلى منظومة الكومنويلث، أو تحت وصاية الولايات المتحدة. فمن لا يحكُّ رأسه مطرِقاً حين يسمع أسماء مثل «تو?الو» و«تونغا» و«كيريباتي» و«مارشال»... ناهيك عن «پالاو» و«ناورو» و«ميكونيزيا» (وكلها في أوقيانوسيا والمحيط الهادي)؟ ومن لا يُقطّب حاجبيه ذهولاً لسماع أسماء «سانتا لوسيا» و«سان كيتِس وني?س» و«سان ?انسنت وغرينادين» و«أنتيغوا وباربودا» (وكلها في الكاريبي)؟ تلك الدول الميكروسكوبية بزغت لا من جوف الأرض، إنما من قاع البحر. فمثلاً، استقلت جزر «پالاو» في نهاية عام 1993، بسكانها الـ14 ألفاً وقتها، بإيعاز من واشنطن، التي كانت الجزر تحت وصايتها. وانضمت إلى الأمم المتحدة في العام التالي.

فلماذا سعت القوة العظمى إلى خلق «دول» من جزر ضئيلة مَنْسيّة في غمرة الهادي، لا تكاد حتى أسماك القرش والحيتان تجد طريقها إليها لصغرها وبعدها من «اليابسة»؟

في الواقع، من منظور بريطانيا وأميركا، ثمة فائدتان من توجّه منح «الاستقلال» لتلك البقاع الضائعة: فائدة «عددية» وفائدة «رقمية». ففي الأمم المتحدة والمنظومات الدولية الأخرى، يصوت كيان مثل «پالاو» بالأهمية نفسها لدولة كالهند، بنفوسها الأكثر من مليار فاصلة كذا. كما عُدّت واشنطن ولندن جزر سالمون، بجنودها الـ150، عضواً في «التحالف الدولي» الذي اجتاح العراق في عام 2003. وتلك أمثلة عن الفائدة «العددية».

لكن الفائدة «الرقمية» لا تقل أهمية. فبعض تلك الدويلات يقدم لأصحاب الرساميل ما يُسمّى «الفراديس» المالية والضريبية والصيرفية والجمركية، سواء أكان في أوروبا (موناكو وليشتنشتاين، وبدرجة أقل لوكسمبورغ)، أو في الكاريبي (جزر كايمان وسانتا لوسيا وسان ?انسنت).

وذلك هو السبب الأساسي في وجود تلك «الأقزام» الجغرافية، التي أصبحت حلقة حاسمة في سلسلة العولمة المالية، ومعبراً آمناً في طريق عولمة الجريمة، من مخدرات ودعارة وتهريب وصفقات سلاح سرية. إذ أصبح بعض تلك المناطق الحرة أشبه «بمغاسل» عملاقة لتبييض النقود الوسخة، يغض زعماؤها النظر عن منشئها، لقاء فتات من الكعكة.