أعلنت المضيفة بدء هبوط الطائرة في مطار لندن. أصلح كل منّا جلسته، وربط حزامه، وتوقف حديثي مع جاري الذي قضى نصف الرحلة في إقناعي بأنه غادر بيروت مُعافى من حُب امرأة، أصرّ على ألّا يلتقيها هناك.

قال لي بعد أن جمع أشياءه «كان الحديث معك مُمتعاً»? أجبته: «سعدت أيضاً بدردشتنا، بقي سؤال تمنيت لو أجبتني عنه بصدق: هل كان سيُسعدك لو وضعَت المصادفة تلك المرأة مكاني في هذه الرحلة؟».

فاجأهُ سؤالي. صمت بعض الشيء، ثم قال: «ربما..».

لم أعلّق?  أدري أن «ربما» المكابرة تعني هنا «نعم». هذا أقصى ما يمكن أن يبوح به رجل في لحظة ضعف، باح لي بالكثير وأخفى عني اسمه. بعد أن تأكد أن حديثنا حوار في السماء بين اثنين بلا أسماء.

خطر في بالي «طلال» بطل «الأسود يليق بك». ماذا لو كان هو الجالس هنا إلى جواري على مدى أربع ساعات، بأناقته الفائقة، وكلماته المنتقاة، وهيْبَة طلّته. حتماً، كنت أيضاً أفضّله رفيق سفري بدل هذا الرجل الأربعيني رياضي المظهر. كنت سأشْهَق لرؤيته إلى جواري، وأعترف له بصدق الارتباك الأول، بأنني اشتقت إليه وافتقدتّهُ، وبي فضول أن أعرف أخباره. سأسأله هل أحَبّ امرأة بعد «هالة»، وهل كان سيُفضّل لو أهْدَتْهُ المصادفة، أن تكون هي الجالسة إلى جواره لا أنا. هل تمنّى والطائرة تحط الآن لو وضع قبلة على يدها وأبقاها طويلاً في يده. وقال لها ما أحتفظ به عن كبرياء عميق في نفسه «لم أتمنّ امرأة كما تمنّيتك». كان بَوْحه سيهزمها، ربما قالت له عكس ما قالته في آخر موعد في مطار فيينّا عندما جمعتهما مصادفة خطط لها.. كعادته.

«لا أظنّنا سنلتقي بعد اليوم، إلّا إذا استطعتَ أن تشتري لك مصادفة أخرى».

ردّ يومها بما كان يدري أنّه الضربة القاضية «سيكون ذلك صعباً، لأننا لن نسلك البوابة نفسها بعد اليوم.. سأتسلّم طائرتي الخاصة نهاية هذا الشهر!».

وهو يشتري طائرته تلك كان يغتال أي احتمال للمصادفة، فللثراء لعنة تلغي المصادفات. ذلك أن الثري يختار من يُصادف!

في النهاية، هالة وطلال، ما كانا في حاجة إلى أربع ساعات من البوح. ككل العشاق الذين باغتهُم الفراق، كانت تكفيهما الدقائق التي تحط فيها الطائرة ليس أكثر، ليقولا وهما في السماء أكثر اعترافاتهما صدقاً، ويسرقا من المصادفة قُبلتهما الأخيرة. فبمقياس اللهفة «الدقيقة والدقيقة لدى عاشقين لا تساويان دقيقتين بل قبلتين».

ما إن حطت الطائرة حتى مضى جاري مسرعاً نحو الباب، مُلوّحاً لي بيده. قدَمَاهُ تأخذانه إلى نيويورك، وقلبه يعود أدراجه مع الطائرة إلى بيروت.

في كل مطار ينتصر الفراق، وتنفرط مسبحة العشّاق.

لمحت على مقعده قسيمة تذكرته وعليها اسمه. ضحكت.

«الحقيقة عابرة سبيل ولا شيء يمكن أن يعترض سبيلها» لو كنت أجاثا كريستي، لأخذت القسيمة وبنيت عليها رواية يوصلني فيها اسم جاري حتى تلك المرأة، ولسمعت منها النصف الآخر للقصة، فلكل فراق روايتان للقصة نفسها. في زمن الإنترنت ما عادت الروايات تستدعي خيالاً كبيراً. في إمكانك أن تعرف كل شيء عن أي أحد، حال معرفة اسمه. على الرغم من ذلك يبقى أمر واحد يصعب عليك معرفته: كيف تُرتّب مصادفة لقائه. ذلك أن المصادفة بالذات وحدهُ الله يخطط لتفاصيلها، لحكمة وحده يعرفها. لذا قال أندريه مالرو: «إنّ المصادفة هي التوقيع الذي يوقّع به الله مشيئته».