يبدو لنا الأمر بديهيّاً لكثر ما اعتدناه: على أي خريطة، الشمال فوق، والجنوب تحت، والشرق إلى اليمين، وعكسه الغرب إلى اليسار. لكن، أولاً لم تجرِ الأمور هكذا دوماً. وثانياً، لماذا ذلك الخيار؟ كان في الإمكان أن تعكس الاتجاهات بزاوية 180 درجة، أو تدور نصفيّاً بزاوية 90 درجة، بينما واقع الحال أن الشمال استتبّ كمرجع للتموضع، وظل يستأثر بالجزء الأعلى من أي خريطة. فلماذا؟

في البداية، كان طبيعياً أن يضع الجغرافيون في وسط الخريطة أمكنتهم وبلدانهم، أو المواقع التي كانوا يعدّونها الأهم. لكن، عموماً، لم يكونوا يأبهون أي اتجاه سيكون في الأعلى والأسفل. وفي حدود عام 150م، عمد العالم الإغريقي الشهير بطليموس إلى رسم خريطة للعالم المعروف آنذاك، فوضع مصر في وسطها.

وذلك طبيعي، بما أن مصر مسقط رأسه، حيث ولد قرب الإسكندرية في حدود عام 90 بعد الميلاد. كما وضع بعض أصول تحديد الموقع، ومنها عدّ خط الاستواء أساساً لحساب خطوط العرض، وأيضاً الشمال في الأعلى. لكن، في القرون الوسطى، عمّت عادة جغرافية أخرى في أوروبا، نبعت من التزمّت الديني. إذ أصرّ الرهبان على ضرورة وضع الجنة في أعلى الخريطة. وبما أن الجنة، وفق معتقداتهم، كانت في مكان ما من الشرق، قلبوا الخرائط لكي يصبح الشرق في الأعلى. حتى إن فعل «توجّه» أو «وجد طريقه» يُقال بالفرنسية sorienter، ما يعني حرفياً «تشرّق» أو «تمشرق» أو «ولّى صوب الشرق».

فلماذا لم تدم تلك الظاهرة، على الرغم من تأصّل المعتقدات الدينية في تلك الفترة وتغلغلها في مظاهر الحياة كافة، بما فيها العلوم؟

سبب عدم ديمومة قلب الخريطة، هو أن الأرض تدور حول محورها شمال - جنوب. بالتالي، تمثيلها بوضع الشرق في الأعلى يبدو «غير مُريح» للنظر وغير موائم للخيال. إلى ذلك، أدّى استنباط البوصلة، في حدود عام 1300م، إلى ترسيخ فكرة الشمال في أعلى الخريطة. فالشمال المغناطيسي والشمال الجغرافي أصبحا يشكلان المرجع الأساسي للإبحار والسفر للاتجار أو الحروب، وعليه شكّلا المقياس الأخير والثابت لرسم الخرائط كتحصيل حاصل لتلك الاحتياجات. فالبوصلة لا تشير إلى الشرق ولا الغرب، إنما الشمال والجنوب. فكان لا بدّ من اختيار أحدهما لوضعه فوق. وبما أن معظم البشر، ومنهم الجغرافيون، يقطنون في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، تم اختيار الشمال بشكل عفوي، لكونه الأقرب.

أضف إلى ذلك سبباً ثالثاً، هو أن النجمة القطبية شكّلت، منذ القدم، مرجعاً بسيطاً ومضموناً لتحديد الشمال. وبذلك، تم التخلّي عن نظام رسم الشرق في أعلى الخريطة، وإقرار العودة إلى نَهْج بطليموس.