هل سبق لك أن وقفت أمام عمل فني وشعرت بأنك تبدو غبياً؟ لا تقلق، فلست وحدك. أنا أيضاً أعاني فوبيا عدم تمييز الأعمال الفنية من سواها، وبمجرد دخولي معرضاً أو متحفاً ما، تبدأ خطواتي بالتباطؤ، وتعلو وجهي نظراتٌ متوجّسة وأنا أشكّك في كل ما حولي، وكل ما أخشاه أن أقف يوماً أمام مصّاصة سقطت من فم طفل وأتأملها باهتمام مُتصنَّع باعتبارها فناً حديثاً، لأجدني في اليوم التالي وقد أصبحت أضحوكة عالمية تصدّرت مواقع التواصل الاجتماعي!

المربّع كما نعرفه ليس أكثر من شكل هندسي بأربعة أضلاع متساوية الطول وتشكّل معاً أربع زوايا قائمة، لكنه في هذا الفيلم السويدي - الذي رُشّح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي - يحمل تعريفاً فلسفياً مختلفاً: (المربع هو مَلاذٌ آمن حيث تسود الثقة والمسؤولية، وداخل حدوده نتقاسم جميعاً حقوقاً وواجبات متساوية). نحن أمام فيلم ساخر يتخذ من الفن قاعدة يقصف منها في كل الاتجاهات، حيث تتمحور القصة حول «كريستيان»، مدير أحد متاحف الفن المعاصر في السويد، وهو يعمل مع فريقه على الترويج لأحدث قطعة في المتحف: (المربع)، من خلال تحويل هذا المضلّع البسيط إلى مساحة مَجازيّة ترمز إلى العطاء ومساعدة الآخرين والتكافل الاجتماعي، وهنا يبرز التناقض الصارخ بين المثالية الزائفة والواقع البائس، فنجد في أحد المشاهد سيدة - تنتمي إلى مؤسسة خيرية ربما - وهي تعرض منشورات على المارّة وتسأل: (هل تريد إنقاذ حياة إنسان؟)، فنجد أحدهم يقول: (ليس الآن)، وآخر يكتفي بتحريك رأسه رافضاً، بينما يتجاهلها آخرون وكأنها ليست موجودة.

تبدو أحداث الفيلم وكأنها مُتدفّقة من منبع مشترك، لكنها تجري في أودية منفصلة، ونادراً ما تتقاطع. فهناك قضية السرقة التي تحدث للمدير «كريستيان»، حيث كانت بمثابة تعرية لحقيقته اللا مسؤولة، والتي يُجيد إخفاءها خلف واجهة لامعة، ومظهر مُهندم، وخطاب ثقافي قد لا يَفْقَه منه شيئاً. على الجانب الآخر، هناك مسألة الدعاية لقطعة (المربع)، والتي تُبرز التمادي البائس في محاولة لفت الأنظار والحصول على مُشاهدات عالية في مواقع التواصل إلى حد استخدام وسائل غير مقبولة أخلاقياً. أما الحدث الذي أذهلني حقاً فكان مشهد الحيوان البشري، حيث يجتمع وجهاء المجتمع والفنانون في قاعة فخمة تتحول إلى مسرح لعرض حي يقوم به شخص يجسّد دور حيوان برّي يتنقل بين الطاولات، ويتمتع بغريزة صيد تجعله قادراً على اقتناص الخوف في نفوس الحاضرين، وما بدأ باعتباره دعابة، يتحول إلى حقيقة جدية، ويجعلنا نطلق الكثير من التساؤلات عما يرمز إليه هذا المشهد الصادم.

السخرية اللاذعة في فيلم The Square جعلته أشبه بشخص يوجّه إليك ضربة أسفل الحزام، بينما يدعوك مبتسماً لتناول فنجان قهوة! إنه يُنفّس عن الغيظ المكبوت داخلنا تجاه المظاهر التي يُبجّلها المجتمع، على الرغم من سخفها وهشاشتها الفاضحة. نجح المخرج في إبقائي طوال الفيلم في حالة من التشنّج الطفيف، وكأنني فردٌ من الطبقة الكادحة وجد نفسه فجأة في سهرة أرستقراطية أو حفلة شاي فيكتورية، حيث كل حركة وهمسة محسوبة عليك، وعليك أن توافق على السلوكيات السائدة - مهما بدت بلهاء - حتى لا تبدو كدخيلٍ مُغفل. إضافة إلى ذلك، فهذا الفيلم يجعلنا نتصالح مع جهلنا الذي نخجل أن نعبّر عنه، بل ويدعونا بطريقة غير مباشرة إلى إطلاق صيحة متمرّدة في وجه من يَدّعون أنهم أعلى شأناً وثقافة منا، ويستخدمون لغة معقدة وجوفاء ليستروا بها أفكارهم التافهة، ويمرّر الفيلم هذه الرسالة من خلال مشهد يُظهر جلسة حوارية لأحد الفنانين، حيث تقاطعهم من حين إلى آخر صيحة من أحد الحضور، وهو شخص مُصاب باضطراب عصبي ويصرخ «هُراء»، وشتائم أخرى قد تجعل كل أُم تسدّ آذان أطفالها.

(إن وضعت شيئاً في متحف، هل يجعل ذلك هذا الشيء قطعة فنية؟). تمعّنوا جيداً في هذه العبارة من الفيلم، وقيسوا عليها الكثير من السلوكيات والأعراف التي ننساق خلفها، فقط لأنها وُضعت في قالب اجتماعي متفق عليه. وفي المرة المقبلة حين تزورون معرضاً ما؛ تحلّوا بالشجاعة للقول إنكم لم تفهموا المغزى من هذه اللوحة، أو أن تلك القطعة الفنية سخيفة، وحتى إن شاهدتم هذا الفيلم ولم يعجبكم، فلا تترددوا في الصراخ في وجهي: هُراء! هراء! هراء!.