البداية مع "هو" لم يحاول الطبيب التخفيف من وقع كلماته عليّ. كنت خارجاً من جراحة لتوسيع شرايين القلب، وقد نجحت العملية بحمد الله، وأمضيت أيام إقامتي في المستشفى محاطاً برعاية طاقم الممرضين وبالحضور الدائم والجميل لفاتن، زوجتي التي لم تتركني، ولو للحظة، خلال ساعات الألم والقلق والخطر. إنها المرة الأولى التي تترك فيها فاتن أطفالنا في عهدة والدتي وتبتعد عنهم ولا تحكي لهم حكايات ما قبل النوم. كانت مشغولة بي، لم تسأل حتى عن واجباتهم المدرسية ولا عن وجباتهم ولا عن الرضيعة التي اضطرت لفطمها بسبب الأزمة القلبية التي داهمتني. ما هذا الذي يقوله الطبيب؟

كان وزني قد ازداد في السنوات الثلاث الأخيرة بشكل مفرط. لكنني كنت فخوراً بقوتي وعافيتي. أشتغل وأسهر وأدخن وآكل مثل وحش. وعندما كانت فاتن تنبهني أو تحاول تشجيعي على التزام حمية غذائية فإنني كنت أسمع كلامها بالأذن اليمنى وأطرده من الأذن اليسرى. أي حمية في مواجهة أنواع الطعام الدسم اللذيذ ومن يصمد وهو يرى أصناف الحلويات والمثلجات الشرقية والغربية؟ حتى الزكام كان بعيداً عني. لم أدخل عيادة طبيب إلا لمرة وحيدة بسبب ألم في سن العقل. وعندما كانوا يسألونني عن وزني فإنني كنت أتهكم وأقول إنني أحتاج ميزانين، واحد لكل قدم، وليس في بيتنا سوى ميزان واحد تحتكره زوجتي. أما عندما كنت أسمعهم يتحدثون عن السكرّي والكوليسترول الضار والكوليسترول النافع، فإنني كنت أهرب من الصالون إلى المطبخ وأفتح الثلاجة لأتسلى بما فيها.

واضحاً وبارداً كان الطبيب وهو يكتب لي وصفة طويلة بالأدوية التي عليّ تعاطيها بعد العملية. قال لي إنه كتب لي نوعين من حبوب علاج ضغط الدم المرتفع عندي بشكل خطير. وأخبرني أن لهذه العقاقير تبعات، منها تراجع القدرة الجنسية. وكعادتي، سخرت في عبّي من كلامه لكنني تظاهرت بالهدوء والإذعان. ويبدو أنه كان يقرأ أفكاري، أو أن خبرته جعلته عارفاً بما يدور في عقول الرجال من أمثالي. فقد وقف ونبهني بشكل حازم إلى ضرورة عدم نسيان الدواء في مواعيده، وإلا فإن الأزمة المقبلة يمكن أن تكون قاتلة.

بعد أشهر قلائل كنت بندقية فارغة. خرطوش بدون بارود ولا نار. كرهت الليل وساعات النوم وفراش الزوجية وكرهت فاتن وكرهت نفسي. كيف يحصل لي هذا وأنا في الأربعين وفي عز رجولتي؟ أسهر أمام التلفزيون وأنا أقرط أصابع الخيار والجزر، محروماً سوى من خمس سجائر في اليوم، مزاجي متعكر أتشاجر مع زوجتي وأطفالي ومع الهواء. كيف ستحتملني هذه المرأة؟ بل كيف سأواجه نظراتها؟ إنها تعاملني وكأن شيئاً لم يكن. تكرر أمامي أن صحتي أهم من كل ما في الحياة من طعام وشراب ومتع وسجائر. ترقد إلى جانبي وتحاول احتضاني بحنان، أدفعها عني وأتملص منها وأدير لها ظهري وأتظاهر بالنوم. لم يعد للحب معنى وأنا عاجز. أما من نهاية لهذا الكابوس؟

هي: للحب أشكال كثيرة لم يخبرني الطبيب بشيء، لكنني كنت أعرف الأمر من قراءاتي ومماّ أسمع من حولي. وهو أمر لم يُقلقني ولا للحظة واحدة، فقد كنت فزعة على حياة سعد، أصلّي له وأدعو ربي أن يُنجيه وأموت عدة مرات وهو في غرفة العمليات. ساعات كأنها دهور، سكبت فيها دموعاً حارة وظللت واقفة، ناشفة الريق، في ممر المستشفى، أرفض أن أستريح أو أن أذوق الماء أو أن أنتظره في غرفته. نسيت حتى أولادي ونذرت إطعام عشرات الجياع لحظة ينهض حبيبي بالسلامة. نحن ما زلنا نوصف بالحبيبين، على الرغم من مرور سنوات طويلة على زواجنا. لا شك في أن عيناً حاسدة أصابتنا وهي ترى تدليله لي وعبارات الهيام التي يخاطبني بها دائماً. لم أكن فاتن على لسانه بل فتّونة وفتنتن وفتافيت سكّر.

استجابت السماء لدعائي ودموعي وزالت الغمّة. عاد سعد إلى البيت وبدأت أرسم خطة جديدة لنمط حياتنا. حمية غذائية وتقنين للدهون وساعة للمشي كل يوم وانضباط في الجهد من دون سهر ولا تدخين. صارت وجباته محسوبة السعرات هاجسي، ومواعيد دوائه هي الأوقات التي أضبط عليها ساعتي. ثم بدأت تغيرات أخرى تأخذ مكانها في بيتي، وتُقلق زوجي وتحتل سرير نومنا. إن العقاقير تُثقل عليه وتسبب له تراجعاً في الإداء. وهو يتهرب مني عندما نأوي إلى فراشنا ويبدو وكأنه يخجل من حالته الطارئة. كم تمنيت لو يصارحني ويفتح معي الموضوع لكي أقول له إنني أحبه العمر كله وفي كل حالاته. سميناً أو رشيقاً. شاباً أو عجوزاً. مريضاً أو بصحة ثور. سأعيش معه في السرّاء والضراء وما المرض سوى قدر من الأقدار ومن التفاصيل العادية للحياة. لكنه يلتزم الصمت وأنا لا أملك جرأة المبادئة بالكلام.

في الليالي الطويلة، أشتاق إلى أحضان سعد وتهفو نفسي لأن يحتويني بين ذراعيه. كيف أتخلص من خجلي وأقول له إن للحب ألف شكل وشكل؟ إن لمسة منه تستطيع أن توفر لي خزيناً من الدفء وتعوضني عن الأمور الأخرى. أتقرب منه وأمسح جبينه كما اعتدت أن أفعل فلا يتناول كفّي لتقبيل أناملي، واحداً بعد الآخر، كما اعتاد أن يفعل. يُبعدني عنه ويهمس: «لا فائدة» ويدير ظهره لي وكأنني أطالبه بما لا يستطيع. متى يفهم أن محنته هي محنتي وأن علينا، معاً، التوصل إلى نمط جديد للعلاقة، يرضيه ويرضيني؟

فكرت في أن أتكلم مع طبيبه لكن الأمر كان فوق طاقتي. ماذا سيظن بي الرجل؟ امرأة خليعة تعترض على علاج زوجها المريض؟ السكوت هو أتعس الحلول. سأعتبر أن شبابي انتهى وأضع أحاسيسي الطبيعية في الثلاجة. سأتفرغ لبيتي وأولادي وأنسى عواطفي. وحتى قمصان النوم الحريرية ستذهب إلى رَفّ عالٍ، وسأطرد الأصباغ والعطور من طاولة زينتي. هل هذا هو ما يريده سعد؟ أن يحكم علينا بالموت ونحن على قيد الحياة؟ لا بد من أن نتحدث في الموضوع، وسأتسلح بكل حبي وذكائي ولياقتي في اختيار الألفاظ لكي لا أجرحه، بل لكي يتأكد من أنني أعشقه كيفما كان، وأنه الرجل الذي يفرش ظلّه على هذا البيت ولا سعادة لنا من دونه.