كيف أن عالماً افتراضياً، يلتهم من عمرك زمناً حقيقياً، فتنسى أن تحيا، وبدل أن تكتب نصوصاً تخلد، تكتب على الإنترنت ما سيزول، وهكذا عوض أن أنجب كُتباً، رحتُ أنجب قرّاءً يتزايدون، ويتناسلون، وينادوني "ماما" و"أمي" و"أَمَّا" بكل اللهجات العربية، بل إن أحدهم اعتاد أن يناديني "خالتي أحلام"، لأنه تمنّى كثيراً أن تكون له خالة ولم يرزقه الله سواي. ذلك أنني قلت يوماً "ن قرابة الحبر أقوى من قرابة الدم"، وهكذا وجدتني مسؤولة عن إطعام 12 مليون قريب، ثلاث وجبات أدبية في اليوم، والاطمئنان عليهم، لأنهم أبنائي بالتمنّي، وبالتبنّي، الذين رُزقت بهم في الفيسبوك.

بمناسبة عيد الأم وعيد "الأبلات" و"الخالات"، أطالب بإجازة من أمومتي. أودّ ليوم مُغادرة مطبخ الإنترنيت، ومكتب الاستشارات العاطفية، ومستوصف الإسعافات الأولية لقلوب أحبّتي القرّاء، أطالب بحقي الأدبي في الأنانية! قبل عقدين من الزمن، حدثني نزار قباني مرة عن قريبة حضرت آنذاك من الشام وأقامت عنده في لندن، وبعد يومين قضاهما سعيداً بما حملت معها من أخبار الأهل والأصدقاء، ما عاد جاهزاً لهدر وقته في سماع المزيد من قصصها. فقرر بشجاعة أن ينسحب إلى مكتبه، متخلياً عن واجباته العائلية في مسايرتها. قال شارحاً موقفه "على الكاتب ألّا يكون كريماً بوقته".

وهو تأكيد لقول هنري ميلر "من واجب الكاتب أن يكون أنانياً". ولقول منصور الرحباني "إن الأنانية شرط إبداعي". وهو ما أدركته متأخرة، فقد كنت أخال التضحية والإيثار صفتين مُتلازمتين للإبداع. قبل أن أدرك، أننا نحتاج إلى أنانيتنا لنقول لمن يستبيح وقتنا ولو بذريعة المحبة "لا".

لذا يحتفظ الروائي الأمريكي راسل بانكس في مكتبه، برخامة لضريح قديم، كتب عليه "تذكّر الموت"، فلا شيء أكثر إلهاماً للكاتب من إدراكه بأن وقته قصير.

غَدَا الكاتب اليوم، مُطالباً بأن يكون رجل إسعاف، ورجل إطفائية، وطبيباً نفسياً، ومُرشداً سياحياً للتائهين في الأزقة الخلفية للمشاعر، فمهمّته الأولى غدت نجدة القارئ وإعادة الإعمار الداخلي، لأمّة ألحقت بها الحروب دماراً وجدانياً يصعب ترميمه.

تقول كامي لورانس "بماذا يفيد الأدب إن لم يعلّمنا كيف نحبّ؟" والسؤال: هل لا يزال في إمكان كاتب أن يُنقذ قارئاً، بعد أن أوْدَت كتب أخرى بقرّائها إلى حتفهم؟ ككتاب غوته "آلام فيرتر"، الذي تسبّب في القرن الماضي بموجة من الانتحارات وسط الشباب الألماني تماهياً مع بطله، وتماشياً مع أحزان تلك الحقبة التي تلت الحرب العالمية. لكن ذلك الزمن ولّى، وغدا الكاتب اليوم يُباهي بعدد القرّاء الذين أنقذهم من الكآبة والإحباط، فالعالم اليوم يضع السعادة مطلباً أولاً، وحقاً من حقوقه الإنسانية.

إنّ بثّ روح التفاؤل واجب على كاتب يملك سطوة التأثير، وفي إمكانه بتوجيه قدر أبطاله، انتشال قرّائه من الحزن المدمّر، والكآبة التي تفتك اليوم بالكثيرين. فلا يمكن أن نواصل تمجيد الألم والخيبات في كلّ ما نكتبه. إن إعادة إعمار الروح وصون المشاعر الجميلة هي مسؤوليّة الكاتب العربي اليوم، الذي يتجاوز دوره سرد قصة، أو منح القارئ ثقافة ما، إلى واجب خلق ثقافة السعادة التي تدين لها كثير من المجتمعات في العالم ببناء أوطان قويّة.. ومُواطن سعيد.