كانت أمي تمجد عادة " شاي العصرية" بينها وبين صديقاتها وكعادة نساء ذلك الزمنن تتجمع النسوة أمام منزل " خالوه مريم" كل عصرية، ليتناقلن أخبار "الفريج" ويقمن بحلّ مشاكل بعضهن بعض، وفي "21 مارس" من كل سنة تستعرض أمهات الحي ما أحضره أبناؤهن لهن بمناسبة يوم الأم.   لم  يكن ذلك اليوم عادياً في بيتنا بل كان يوماً مقدساً، فلم نكن لندع أمنا تذهب خالية الوفاض إلى جاراتها؛ كانت أمي تتفاخر بما نهديها إياه، إلى درجة أن كل قطعة كانت ترتديها تحمل في طياتها ذكرى منسوبة إلينا، تتزيّن أمي بخاتم أهداها إياه أخي "جمعة" يوم تخرجه، خاتم آخر من أخي "علي" بمناسبة  أول راتب له، خاتم "هويام" الذي طلبته والدتي من أختي وفاء حين زارت تركيا، عطر من أختي "زكية" كانت ترشه أمي على "المخورة" التي خاطتها لها أختي "صنعاء اليمن". ثم تضع أمي "شيلتها" بكل وقار على رأسها وهي تقول لأختي "زينب": "هاتيلي منهن – قاصدة الشيلة- بعطيهن لخالوه شمسة "، في هذه الأثناء تحشو أختي "جواهر" المال في حقيبة والدتي لأنها عجزت عن إيجاد هدية لست الحبايب، وفي اللحظة نفسها تقوم أمي بتزيين جيدها بقلادة ماسية تتوسطها كلمة "أمي" كنا قد أهديناها إياها في آخر "يوم أم" مر عليها، هذه القلادة التي ظلت تزين رقبتها حتى يوم وفاتها قبل 5 سنوات.   منذ  أيام، سالتني بعض صديقاتي ماذا يمكن أن تحضر كل واحدة منهن لأمها في هذا اليوم؟ وكأن الدنيا ضاقت بهنّ فلم يجدن غيري لتوجيه هذا السؤال له، صحيح أنني مستمعة جيدة وقد تفلح نصائحي واقتراحاتي في الغالب، لكن ليس في مناسبة كهذه، دموعي تسابق كلماتي دائماً، إلى درجة أنني أشعر باختناق حقيقي؛ أتمالك نفسي في النهاية لأعطي اقتراحاً جيداً ولكن بعد أن ينعكس هذا السؤال سلباً عليّ فيصبح يومي حزيناً ومزاجي بائساً. أحبّ أمي، أحبها لدرجة أنني ما زلت ألوم نفسي لأنني لم أدهن رجلها بالكريم المرطب في آخر ليلة لها كما جرت العادة، أحبها لدرجة أنني ما زلت ألوم نفسي على قبولي العمل في مدينة بعيدة عنها، أحبها لدرجة أنني ما زلت أعاتب نفسي على اتخاذي قرار الانسحاب من دراسة الهندسة الوراثية لأنتمي إلى العمل الصحفي.. أذكر أن أمي اشتاطت غضباً حينما أعلمتها بقراري ذلك، كيف لا وابنتها "آخر العنقود" التي وضعت أحلامها فيها اختارت أمراً لا يليق بمستواها العلمي مثلما كانت تعتقد، ما زلت نادمة على كل لحظة آلمتها بها رغم أنني متيقنة بأنها فخورة بي، فقصاصات الصحف والمجلات التي يعلوها اسمي كانت ضمن ملف خاص احتفظت به أمي بجانب شهاداتنا الدراسية. أعلم  أن ذكرى كهذه هي مصدر فرح في العديد من البيوت، إلا أنها في بيتنا، وفي بيت كل فاقد أم، هي ذكرى مؤلمة تحرّك المشاعر بقسوة؛ هناك غيري الكثير ممن اختبرهم الله في أحب الأشياء على قلوبنا، الوالدين، ليتركنا بلا سند ولا عضد. كانت أمي تقدس العلم وحزنت بشدة حينما تم تزويجها وإخراجها من " الدينية"، وهو مكان لتحفيظ القرآن وتعليم القليل من الحساب والقراءة. بعد إنجابنا حنت أمي للعلم فالتحقت بمعهد لمحو الأمية وتعلمت ما استطاعت وللأسف لم تستطع المتابعة، فبعد 6 فتيات وولدين وزوج مشغول بعمله، كان الأمر شاقاً عليها، كان يجب أن تضحي بنفسها وبأحلامها من أجل أن تعتني بنا وحدها وبدعم كبير من أبي. تخلت أمي عن حلمها بالتعليم من أجل تربيتي وإخوتي لكنها زرعت فينا حب العلم والثقافة، وكانت دائماً ترى نفسها فينا وتسقي أحلامها من خلالنا، تبتاع الكتب لنا، تحرص على متابعتنا دراسياً وتعاقبنا بصرامة في حال تراجعت درجاتنا. ولربما كنت أكبر من تعرض للعقاب، ليس لأني ضعيفة دراسياً، ولكن لأن أمي كانت تعلق آمالها الأكبرعليّ، فلم يكن مسموحاً لي على الإطلاق التغيّب عن المدرسة خلال الـ 12 سنة دراسية؛ أذكر أنني تغيبت يوماَ واحداً فقط بسبب مرضي الشديد بأمر من الطبيب، ولو كان الأمر بيدها لأخذتني عنوة إلى المدرسة. لم تكن أمي قاسية أبداً، لكنها أرادت منحنا الحياة التي حرمت منها، وكثيراً ما كانت تردد "باجر إذا كبرتو ابا الناس تقول ماشاء الله على بنات عاشة علي متربيات ومتعلمات"، ورغم حلمها البسيط إلا أنها سعت لتحقيقه بكل ما أوتيت من قوة، لقد ناضلت أمي لخلق مستقبل مشرق لنا وحاربت العالم من أجلنا؛ كانت دائماً تقول: "أنا لا أقسو عليكم إلا لمصلحتكم". أمي الحبيبة.. تسندني روحك في غيابك ودعواتك لي ما زال يتردد في أذني، لكم أشتاقك، ولكم أحن إلى وجهك، ولكم أشتاق مناداتك وعتابك لي"، ولكم هي الحياة قاسية من دونك. وما أقسى الحنين.