ذات صباح، دق هاتفي على التاسعة صباحاً، بإلحاح الحب المستيقظ على لهفة، أكان الأمر مصادفة؟ كان هاتفاً يحفظ قلبي أرقامه تماماً، لكن يدي أبت أن ترد. ما كان الهاتف يدقّ بل يخفق، والأشياء من حولي راحت ترقص، والأوراق على مكتبي كانت تتطاير ابتهاجاً بحب يعود، وخزانة ثيابي تستعجلني أن أفتح القلب مجدداً للجنون. لكنّني قرّرت ألا أفعل. فقد كنت أنوي أن أباشر كتابة كتابي عن الفراق، وكل ذلك يستدعي عدم فتح الباب للحب، أو الاستسلام لنداء هاتف سيعبث بأقدَار قلمي، ويُلخبِط فصول قلبي. كنت أحتاج إلى أن أكون وحيدة، كما هم العشاق في مواجهة الفراق.. كي أكتب في وجعهم. لعل امرأة غيري ما كانت لتقاوم كل كمائن الحب التي تنصبها الحياة لكاتب، بذريعة قصة تستحق أن تعاش لتُكتب. صعب لامرأة ليست كاتبة، أنّ تعي أن الحالة العشقية في تقلباتها، ونوبات تطرفها، هي أكبر خطر على المبدع، إنها استلاب، احتلال، استحواذ، هدر لأدبه في المهاتفة والمشافهة، فالكلمات التي تخلد لا تُسمع، إنها لا توشوش إلا في أذن الأدب... بين دفّتي كتاب. كل المبدعين يدرون أن عليهم أن يختاروا بين الإبداع والعشق. وحدث ذات مرة أن قال لي نزار: «أحبك لأنك تشبهينني، لو خُيّرتِ بين الكتابة ورجل، لاخترت الكتابة». وكان يعني برجل «الحب»، أجبته مصححة «بل سأختار الرجل!» علّق بخيبة ما «لن تكوني كاتبة حتى تختاري الكتابة!». العشق مضني، ومعضلة المبدع، أنه لا يقبل بأقل من العشق حريقاً، وفي ذلك تهديد لسكينته، فعليه أن يحذر الوقوع في تبعيّة عاطفية كاذبة. لقد أصبح الكاتب على أيامنا، آخر شاهد على انهيار العالم الجميل الذي كان، وعليه أن يحمي نفسه بالغياب. أن ينسحب انسحاباً نبيلاً لا جُبن فيه، واضعاً مسافة بينه وبين الحياة المخادعة، التي غدا الهاتف أحد أدواتها. زمن الصداقات الجميلة انقضى. يوم كان الهاتف قصيدة، أو نكتة، أو حسرة أو سؤالاً، كان زمن الرجال الرجال. أذكر من ذلك الزمن الذي لن يتكرر، تلك المكالمات التي كانت تصنع سعادتي، للراحلين الكبيرين الدكتور غازي القصيبي.. والعزيز نزار قباني. أولئك الجميلان، أين ذهبت أصواتهما.. شاعريتهما.. وسخريتهما الجميلة.. ونصائحهما الودودة لي. الكبار الذين كانوا كائنات حبريّة، وغادروا تاركين حقائب الكلمات، أسَرَقَهُم منّا الموت؟ أم الصمت؟ أم الوقت، الذي مع الوقت يُنسينا الراحلين وكأنهما ما وُجدا؟ الوقت سارق، برغم ذلك، نحتفي به كلّ بدايات سنة، من دون أن نفتّش جيوبه، لنتحقق ممّا سَطَا عليه. لا نريد أن نرى وجوه من مضى بهم بعيداً، ولا أن نعرف ماذا أخذ منا، نخشى أن نقع بين مفكرته على دموعنا، على غبار أوهامنا، وقصاصات قصائد أخطأت عناوينها، وعلى ثلاثمئة وخمسين يوماً ذهب معظمها سدىً، وأخطأنا حُسن الظن بها. نخشى، أن نقع على أرقام هواتف، توقف نبضها، مازال بعضها على دفاتر هواتفنا القديمة، ولعلها غدت لأناس آخرين، لا يدرون ماذا كانت يوماً تعني لنا.