"ولدي العزيز غرانت، ما زلت صغيراً جداً ولا أعرف حقاً ماذا أقول لك. كنت أريد أن أحتضنك بقلبي طوال حياتك. أنت بالنسبة إلي معنى السعادة، حتى وأنت في هذه السن الصغيرة، تبدو ذكياً ولديك شخصية. كانت أكبر سعادة في حياتي لو انني أستطيع البقاء إلى جانبك، لكننا لا نستطيع دائماً أن نحصل على ما نريد، لذلك علينا أن نرضى بما لدينا. أعطيك كل حبي وأحضاني وقبلاتي لكل تلك الأيام الكثيرة القادمة والتي لن أكون معك فيها. يا بني عش حياتك كما ينبغي. مع حبي.. ماما". هذه الرسالة الصغيرة والمكثفة كتبتها والدة الطبيب النفسي غرانت برينار، والذي أصبح رجلاً اليوم، وظلت هذه الرسالة ترافقه في طفولته ومراهقته وشبابه، بعد أن رحلت والدته وهو في عمر تسعة أعوام إثر إصابتها بسرطان الغدد الليمفاوية. يقول غرانت في مقال له نشره في مجلة "سيكولوجيا اليوم" الأميركية أول أمس ونشر فيها الرسالة، إنه كطبيب نفسي أصبح يعرف الكثير عن مشاعر الأمومة من خلال الدراسة، كما أصبح يفهم مشاعر الفقدان عند المرضى الذين يأتون للعلاج عنده، لكنه يؤكد أن شيئاً يظل ناقصاً في حياته ويؤلمه، وهو كيف كان سيشعر لو كانت أمه في حياته، ويقول إن كل العلم الذي تعلمه حول هذه التجربة لا يكفي لكي يضعه في صورة واضحة حول تلك العلاقة الخاصة بين الأم وابنها. يستعيد غرانت الذكرى الأخيرة له معها، وأنها كانت في غرفة العناية المركزة قبل وفاتها بقليل. لكن إصابتها بالمرض وهو في عمر سنة واحدة يعني أنها قضت معه طيلة سنوات طفولته الأولى مريضة تعاني وتصارع لتبقى معه أطول وقت ممكن. ولكنها تركت له هذه الكلمات القليلة في الرسالة التي ظل يقرأها عاماً بعد عام، رغم بساطتها، باحثاً فيها عن سر ما، عن شيء من حبها له. يرى غرانت أن فقد إحدى الأبوين يشعر الإنسان أن له دين عاطفي مستحق، لكنه لن يجد من يسدده إليه، ويقول إن الطفل الذي يفقد أحد والديه معرض لأن يمرض كثيراً، ويكون غير قادر على بناء علاقة سوية مع الآخرين، إذ يظل شعور الخوف من الفقدان يرافقه. ويعتبر الطبيب النفسي أن الطفل الذي يعاني من الفقد يجري استبعاده من دون قصد من الأطفال الآخرين في المدرسة، لأن الأطفال يرتاحون لشعور أنهم كلهم متشابهون، لديهم آباء وأمهات في البيت، لذلك قد يحدث إقصاء لا واع لهذا الطفل، يؤثر في حياته لوقت طويل. يدعو غرانت المجتمع الصغير الذي يتحرك فيه طفل يعاني من فقدان أحد أبويه، أو ربما يكون أحدهما مريضاً ويحتضر، إلى بناء جسور مع الطفل يستطيع من خلالها التعبير عن مشاعرة، فالطفل لا يملك الكثير من المفردات، لكنه خزان مليء بالمشاعر، يمكن أن يعبر عنها بالصراخ والبكاء والرسم والركض والغضب، ويمكن أن يساعده أن نسمعه ونصغي إليه ونتركه يفتح قلبه كما لو كان شخصاً راشداً. المشكلة أننا نعتقد أن مشاعر الطفل أقل تعقيداً من الكبار، وهذا ليس صحيحاً!