كل شيءٍ كان يحدث بصمت، في ركنٍ صغيرٍ منزوٍ بين سريري ونافذتي وأشيائي... كان ذلك قبل عشرين عاما... هناك، وعلى مسافةٍ قريبةٍ من الحلم، كانت تحضرني دائماً وجوهٌ خافتة الملامح، تتبختر زهواً أمامي خارجةً من بين طيّات كتاب، فتقترب مني حدّ التلاشي، لتسكنني حدّ التوحّد. لطالما أسقطت علي أسماء كثيرة، وزينتني بملامح مختلفة، ومنحتني صفات متناقضة... كنت أجدني مرةً الخادمة كوزيت بثيابها البالية، أكنس الأرض أو أنوء بحمل الماء، ثم تناديني فجأةً مارغريت العاشقة وهي بكامل فتنتها وإغرائها، فأركض خلفها ملهوفة، ليسكنني ألمها، وتهطل دموع الكاميليا عميقاً في قلبي. إلا أني لا أزال أذكر جيداً كيف عشت لأيام عديدة بثياب تميمة نصور، وقلبها وجسدها. كنت في الخامسة عشرة من عمري عندما قرأت "طواحين بيروت" ولا أذكر تماماً كم طالت بي القراءة آنذاك، ولكني لا أزال أذكر تأثري حينها باندفاع تلك الشابة وثورتها، وتمرّدها على الأعراف... وأذكر كيف كنت، أنا الفتاة الريفية، أحلم بزيارة "مدينتها" بيروت، وأنتظر حبيبها "هاني الراعي" مثلها تماماً... لعلّي لم أعِ يومها وأنا ابنة الخامسة عشرة، ما كان يرمي إليه توفيق يوسف عواد في رائعته تلك من رسمٍ لواقعٍ ستخطّه الحرب بعد ذلك، ولعلّي لم أفهم جيداً أبعاد الشخصيات التي نسجها وتعقيداتها وواقعيتها، إلا أني بقيت لأيام عديدة أطالع ذلك العالم المدهش الذي اختصرته بضع صفحات، وأنا أحلم أن يكون لي يوماً متسعاً من الحرية لأرفرف بجناحي أنثى في فضاءٍ لا تحدّه الأعراف ولا تكبّله القيود...   غيداء طالب كاتبة لبنانية مقيمة في دبي منذ عام 2002. متخصصة في اللغة الفرنسية وتعمل في حقل التدريس. صدر لها عام 2012 مجموعة قصصية بعنوان "نساء في مهبّ الحب". في خريف 2014 روايتها الأولى " كل عام وأنت حبي الضائع" ، عن دار نوفل – هاشيت أنطوان.