حين حصلت زها حديد على جائزة بريتزكر للعمارة (2004) كانت أول امرأة في العالم تتلقى هذه الجائزة الرفيعة التي تعادل الحصول على نوبل، بحسب المتخصصين في هذا المجال. ليس مستغربا أن تحصل حديد على هذه المكانة، وهي التي أعادت تعريف أساليب ومنهجيات كثيرة في العمارة وبشكل جذري. يكفي أن نتأمل مبنى مركز الفن المعاصر في سينسيناتي لكي تتأكد هذه المقولة، فقد قامت حديد لدى تصميمها هذا المبنى بتطبيق نقاط متعددة للمنظور، مشظية فكرة الهندسة بمعناها التقليدي لتجسد بذلك الفوضى في الحياة المعاصرة. كان إعلان الجائزة قد قدم فن زها حديد في العمارة بقوله :"لم يكن بناء سيرة زها حديد في العمارة تقليديا أو سهلا، كل المعماريون يصارعون من أجل الأفكار، لكن يبدو أن حديد عانت أكثر من غيرها. فطريقة تفكيرها المنفردة، وعدم قبولها للتسوية هي مكونات الأسطورة. وفي جزء منه يتطلب الأمر مزاجا فنيا خاصا وضروريا لابتكار شيء معماري قوي مثل أعمال حديد". لا يذكر التاريخ كثيرات من النساء اللواتي برزن كنجمات في فن العمارة في العالم، لذلك يطلق عليها الكثيرون لقب "ديفا" ويعني المغنية الرئيسية أو الأسطورة في الغناء. غير أن حديد ردت بطريقتها على هذا اللقب يوم افتتاح أول مبنى رئيسي لها في 2003 وهو مركز الفن المعاصر في سينسيناتي، إذ كان موظفو حديد يرتدون قمصانا مكتوب عليها "وهل كانوا سيسمونني ديفا لو كنت رجلا؟". لكن لشخصية زها حديد القوية مشاكلها أيضا، فقد وصفت بأنها مشهورة ليس فقط بالمباني التي أنجزتها بل بتلك التي لم تنجزها أيضا وظلت مرسومة ومنشورة في صور جميلة لمبان عظيمة وأفكار استثئناية لم تنفذ. فبعض زبائنها يهربون بعد التعامل معها فيتوقف المشروع، إنها صعبة المزاج كأي فنان ولا تقبل المساومة ولا التفاوض حول تصميمها. لكن لولا هذه الشخصية القوية التي تتسم بها حديد لما أمتعت العالم وجمّلته وأبدعت فيه بتصاميم مدهشة استبعدت منها نقاط الضعف، وتمتعت فيها بقوتها وقدرتها كصانع لمجموعة من أجمل تشكيلات ومنحوتات العمارة في العصر الحديث. ولدت حديد في بغداد سنة 1950، كان العراق في الخمسينيات موطن العلمانية والحرية الفكرية والثراء الأدبي والغنى الثقافي، وكان الاقتصاد ينمو على نحو متسارع. وتربت حديد في بيت سياسي من الطراز الأول، فقد كان والداها رجل سياسية واقتصاد وصناعة، ينتمي إلى عائلة برجوازية عريقة. أما تعليمها، فقد التحقت حديد بمدرسة داخلية في بغداد ثم انتقلت لأخرى في سويسرا. وأكملت الدارسة الجامعية في لبنان، حيث حصلت على درجة في الرياضيات من الجامعة الأميركية ببيروت. وفي سنة 1972 التحقت حديد بالجمعية المعمارية في لندن، وهي أفضل مكان أكاديمي ليتقدم ويبرز ويتعلم أي معماري مستقل وطموح. وتتلمذت على يد معلمين في المعهد من أبرز الأسماء في عالم العمارة، مثل كولهاس الذي وصفها بأنها "كوكب يدور في مجرة وحده". نفذت حديد كمشروع للتخرج فندقا في لندن على جسر هانجرفورد، وقد صممته ليوحي بأنه مبنى على وشك الإقلاع والإفلات من جاذبية الأرض، متأثرة فيه بأعمال الفنان الروسي كازيمير ماليفيتش. تبدو حديد بخيالها الذي جرب مدارس معمارية وفنية كثيرة واستقر على التفكيكية، تبدو وكأنها تنتمي لعالم الخيال العلمي فتصميماتها توحي بأنها مجعولة لكوكب آخر. لكن ذلك لا يمنع أنها متأثرة بثيمة في العمارة الإسلامية وهي الاعتماد على إبراز قيمة الظل والضوء في المكان، وهو تقليد عريق في فن العمارة الإسلامية. في بداية مشوارها كان يبدو للجميع ممن يرى أعمال زها المصممة على الورق أنها مستحيلة التحقيق والتبني، وظل الأمر كذلك حتى قامت شركة في هونج كونج بتبني تصميمها لمنتجع "القمة"، ولكن الأمر لم يكتمل للأسف، ففي سنة 1983 لم يتحقق مشروع “القمة” بعد خسارة العميل لموقع العمل وليس بسبب تصميم حديد. وظلت حديد بعد ذلك عشرة أعوام حتى صممت مبنى آخر. عاد سوء الحظ مرة أخرى ليقابل حديد مع مبنى الأوبرا في كارديف، حيث فاز تصميمها الذي يحمل اسم "العقد الكريستالي" في مسابقة دولية لتصميم دار الأوبرا الجديدة في عاصمة ويلز. ولكن تنفيذه كان مستحيلا لسببين، فهو لم يجد دعما ماديا كافيا. كما لقي تصميم حديد معارضة شديدة من السياسيين في كارديف التي تتميز بطبيعتها المحافظة ثقافيا ومعماريا، بينما جاء تصميم حديد وكأنه سقط عليهم من الفضاء. ولكن مثل هذه الإخفاقات كانت بمثابة الطريق إلى النجاح الكبير، فبعد أن نفذت مشروع مركز الفن المعاصر في سينسيناتي أسكتت حديد كل الألسن التي كانت تزعم أن تصاميمها مجرد خيال جميل على الورق. من أشهر مشاريع حديد وأكثرها غرابةً وإثارة للجدل مرسى السفن في "باليرمو" في صقلية 1999، والمركز العلمي لمدينة "وولفسبورج الألمانية" 1999، وكذلك المسجد الكبير في عاصمة أوروبا "ستراسبورج" (2000)، ومنصة التزحلق الثلجي في "أنزبروك" (2001). والاستاد الأولمبي في لندن (2012). وفي المنطقة العربية جسر الشيخ زايد في الإمارات، و تصميم متحف الفنون الإسلامية في الدوحة ودار الأوبرا في دبي. تعيش زها حديد الآن في لندن، وهي صاحبة شركة لا يقل عدد موظفيها عن 400 موظف وتعمل على ما لا يقل عن 950 مشروعا هي من ضمن الأشهر عبر مختلف أنحاء العالم. أحدثها ما سيراه العالم بمناسبة دورة الألعاب الأولمبية لعام 2020 في روسيا حيث كلفت بإنشاء الملعب الرئيس. وكذلك مشروع مع شركة صناعة اليخوت الألمانية الفاخرة بلوهم فوس، كما أنها صممت مؤخرا يخت الملياردير الروسي رومان أبراموفيتش “إيكلبس” ثاني أضخم اليخوت في العالم. ومن مشاريعها المرتقبة ستاد "الوكرة" المعد لاستقبال كأس العالم في قطر 2022. إن كان يمكن لتجربة نجاح أن تكون ملهمة بحق، فإن زها حديد من أكثر التجارب إلهاما، ليس للمرأة العربية فقط بل لكل النساء في العالم، فقد اقتحمت مجالا حكرا على الرجال، وكانت امرأة عربية تنافس في مجتمع أوروبي ثم عالمي، وبشروط صعبة وبتصاميم مستفزة وصادمة. سر نجاح قصة حديد مكشوف إذا حققنا النظر، وهو الإبداع والتحرر من أنماط التفكير التقليدية والدارسة والعلم، وبلا شك الإصرار والعناد. اقرأي أيضا: جائزة “المرأة الأكثر إبداعاً” لطبيبة إماراتية  إماراتيتان في قائمة النساء الأكثر تأثيرا في العالم الإسلامي بعد إفرست..رها المحرق: أود تغيير رأي السعوديات في أنفسهن 66 عاما على النكبة..الفلسطينية أشجع نساء الأرض