هبطت أسعار الفنادق في تونس بشكل كبير وقل اكتظاظ السياح، لذلك بات بالإمكان قضاء أيام أطول بكلفة أقل في مناطق خلابة هادئة ومدهشة في جمالها. ففي مدينة المهدية الحالمة يحتسي السياح الشاي بالنعناع وهم مستلقون على الشاطىء ويقتفون آثار عصور سحيقة. وفي قلب الصخور يقع مقهى سيدي سليم ذو اللون الأبيض البرّاق والذي يقدم إطلالة رائعة على ساحل مدينة المهدية. وهنا يحتسي السائح شاي شرقي ساخن بالنعناع وذي مذاق حلو ولاذع، ويجول بنظره عبر البحر ذي اللون الأزرق الداكن، ويتطاير شعره بفعل رياح البحر. وينبهر السائح بمهارة النادلين، الذين يرتدون زياً أنيقاً يتألف من اللونين الأبيض والأسود، في الحفاظ على الأطباق التي يحملونها أثناء مرورهم بين الطاولات التي يجلس عليها تونسيون يستمتعون بمنظر البحر. وقد شيد الخليفة عبيد الله، أول الخلفاء الفاطميين، مدينة المهدية عام 916 ميلادية لتكون مقراً لحكم الدولة الفاطمية ومركزاً لضم العالم الإسلامي بأسره تحت لوائها. ولكن هذا لم يحدث، غير أن عبيد الله نجح في أن يوسع رقعة حكم أسرته حتى مصر واتخذ من القاهرة مقراً جديداً للخلافة الفاطمية. واحتفظت العاصمة السابقة للخلافة الفاطمية باسم المهدية المشتق من اسم المهدي الذي كان عبيد الله يُلقب به. ولكن هذا الاسم المبشر بالخير لم يمنع القراصنة في العصور التالية من اتخاذ المدينة كنقطة انطلاق يشنوا منها هجماتهم على السفن التجارية المارة في البحر المتوسط وقرصنة البضائع على متنها. وتعاقب على المدينة فيما بعد العثمانيون، ثم الفرنسيون، وأخيراً يفد إليها السياح من جميع أنحاء العالم. ونظراً للأحداث السياسية الراهنة، يتوافد حالياً عدد قليل من السياح إلى المهدية، لدرجة أن السياح يتفقدون آثار العصور السحيقة بمفردهم تقريباً. وعلى يمين مقهى سيدي سليم يقع لسان بري يأخذ السائح إلى ماضي المدينة الحافل بالتاريخ؛ حيث يوجد هنا طريق يزخر بأطلال المباني الفاطمية والعثمانية. وفي الثلث الأخير من اللسان البري تقع مقبرة إسلامية قديمة تمتد لمساحات شاسعة فوق هضاب قليلة الانحدار، وفي كل ربيع تكتسي المقبرة بزهور صفراء. وفي نهاية اللسان البري، المسمى برأس أفريقيا، يمكن الإحساس بروح العصور الماضية، وهنا تبدو بقايا قوس حجري ضخم كبوابة للبحر، وخلف هذه البوابة يمتد البحر متلألئاً حتى الأفق. مَن رأى كل شيء في الماء من هنا وسمع هدير الأمواج؟ هذه الأفكار تجول في رأس السائح وهو في طريق عودته إلى المقهى. وبعد الوصول إلى المقهى سرعان ما يحتسي السائح كوب شاي بالنعناع مرة أخرى ليطرد أرواح الماضي من ذهنه ويجلس في هدوء ويستمتع برؤية الأفق الساطع.