لم تعلم ليبيا أنّها سوف تكون سبباً بعد الله في توحيد الفصائل الفلسطينية التي عجزت عنها جامعة الدول العربية والامم المتحدة. كانت ولادة عندليب فلسطين في أحد مستشفياتها، ونشأ في مخيم خان يونس واختلط بأهله البسطاء الذين كانوا يسقون أطفالهم القضية الفلسطينية كل يوم. كبرت معه وكان عساف موهوباً بالفطرة. في عمر الخامسة، كان يحفظ الأغنية واللحن، وكانت والدته الداعمة الأولى له. وفي عمر العاشرة، اتصل ببرنامج في قناة "فلسطين" وكانوا يستضيفون الفنان الفلسطيني جمال النجار. وقال عساف إنّه يريد الغناء فطلب النجار منه الغناء على الهواء مباشرة، ففعل. أُعجب النجار بصوته وأنتج له أغنية "شد حيلك يا بلد". وكانت بداية عشق الفن في حياته وأصبح عساف بعدها معروفاً على الصعيد الفلسطيني. لكن انطلاقته الحقيقية كانت بأغنية "علي الكوفيه" التي أصبحت من الموروث الشعبي الفلسطيني نقلت عساف للغناء في المحافل الوطنية والأنشطة الصيفية. وانتهت فترة التأسيس وانتقل إلى مرحلة الانتشار العربي، فكانت مشاركته في "أراب آيدول" من أروع قصص الكفاح في وقتنا الحاضر. أعلنت قناة "أم. بي. سي" عن انطلاق البرنامج، وما كان من عساف الا أن حمل حقائبه وغادر قطاع غزة إلى مصر قبل أسبوعين من اختبار الأصوات. خرج من المعبر بشق النفس، والمعبر لا يغادره الا من تجاوزت أعمارهم الخامسة والثلاثين عاماً إلا في حالات استثناءائية. لكنّ عساف أصرّ على الخروج واستخدم جميع معارفه وإمكاناته كي يخرج، واستطاع ذلك وتجاوز المعبر ووصل الى القاهرة وانتظر لمدة أسبوعين لغاية انطلاق البرنامج. وفي يوم اختبار الأصوات، استيقظ باكراً وذهب إلى الفندق حيث المقابلة. وعندما وصل إليه، وجده مغلق وجميع الأرقام نفدت. حاول الدخول بشتى الطرق لكن من دون جدوى، فاتصل بوالدته التي ألهمته أن يقفز عن سور الفندق ففعل. وما كان من الامن الا أن قبض عليه فشرح له رحلته وعناءه وأخبرهم أنّه من غزة. كأنّ رجل الامن رق قلبه فأدخله ولكن من دون رقم. وأوصدت جميع الأبواب، لكنّ أمله كان كبيراً بالله، فاستخدم سلاحه وأصبح يشدو بأعذب الأغاني. وما كان من بعض المشاركين الا أن ذهلوا بروعة هذا الصوت والتفوا حوله وسألوه عن رقمه، فأخبرهم أنّ الحظ لم يحالفه بأخذ رقم، فأصرّ عليه أحدهم بأخذ الرقم. الا أنّ عساف رفض في البداية.   وبعد إصرار المشارك، رضخ عساف وأخذ الرقم ودخل على لجنة تقييم الأصوات، وتم قبوله مبدئياً، وغادر بعدها إلى غزة كأنّ الأمل بدأ يلوح في الأفق لشاب فلسطيني كان طموحه رفع اسم بلده في جميع أرجاء الوطن العربي. يحمل قضية ولدت قبله، وأصبح التواصل بينه وبين البرنامج عن طريق البريد الالكتروني، فأرسلوا له يطلبون بعض الأوراق، وكان هناك لبس في طريقة الفهم بينه وبين مسؤولة البرنامج. إذ طلبوا منه ورقة "عدم ممانعة" وهذه تطلب من الفلسطينيين لدخول لبنان وسوريا فقط. ولم يحضرها عساف. وعند اتصاله بأصدقائه المشاركين في البرنامج، أخبروه أن الفيزا وصلتهم وحاول التواصل مع مسؤولة البرنامج مرة أخرى وتم إخباره بأنّها لن تخرج فيزا له لأنه لم يحضر "ورقة الممانعة". هنا تسلل اليأس الى قلب عساف وأصبح يلح بالرسائل عليها وجعل والدته تتحدث مع المسؤولة علّ يرقّ قلبها. وما كان منها الا أن اخبرته بأن يحضر الورقة وسوف تحاول التكلم مع المسؤولين. وذهب محمد إلى وزارة الداخلية في قطاع غزة ولم يستطع الحصول على الورقة إلا بعدما "رمى الفلوس واستسلمت النفوس". وأرسلها لها عبر البريد الالكتروني. وفي اليوم التالي، اتصلت به مسؤولة البرنامج وأعلمته بأنّه يجب أن يكون في مصر بعد يومين، ثم أرسلت له التذاكر. أما الفيزا فأخذها من مصر. وذهب المناضل الصغير خلف حلمه وحلم ملايين الفلسطينيين بأن يصدح اسم بلاده في شتى أقطار الأرض. وعند ذهابه إلى المعبر، وجده مقفلاً بسبب زيارة مسؤول في الحكومة. وهنا لم يفقد الأمل فاتصل بصديق له وأحضر له "ورقة تنسيق" من الحكومة المصرية كي يستطيع الدخول. وبعد اجتيازه الحدود، ذهب إلى القاهرة لكي يسافر في الصباح إلى بيروت. وهنا كانت رحلة عناء أخرى مع الفيزا التي لم تخرج إلا عند التاسعة صباحاً وطائرته تقلع عند الساعة العاشرة. وذهب إلى "كونتر" الجوازات وسأله الموظف عن الفيزا، فقال معي على الموبايل فأخبره الموظف أن يأتي بها على ورقة وراح يجري في المطار يبحث عن كمبيوتر كي يستطيع دخول بريده وطباعتها. ووجد أحد الموظفين الذي ساعده، فصعد إلى الطائرة قبل إغلاق البوابة بدقائق وغادر إلى بيروت وهو آخر يوم لمقابلة اللجنة. في اليوم نفسه، قابل اللجنة وقدّم أغنية العندليب الأسمر "جافيني مرة" التي كانت بوابة الشهرة وانطلاقة عندليب فلسطين المناضل محمد عساف ما جعلني أسرد لكم قصة كفاح محبوب العرب محمد عساف أنّ الفلسطينيين ليسوا كما صوّرهم الغرب بأنّهم لا يعرفون سوى لغة البنادق والمدافع. هناك من يتحدث بلغة الموسيقى التي يفهمها جميع الناس على اختلاف أعراقهم ولغاتهم وأديانهم. سنوات عديدة مرت ولم تستطع السياسة توحيد كلمة الفلسطينيين والعرب. وحده عساف استطاع بالعزيمة تحقيق هذا الحلم.