كان عبد الوهاب يقول "لا شيء يقف أمام الجمال"، وقد غنى للشاعر اللبناني الكبير بشارة الخوري رائعته "الصبا والجمال ملك يديك، أي تاج أعز من تاجيك". راهن عبد الوهاب على التجدد الفني، وكان يرى أنّ الإبداع هو في العصرية والشباب وأنّ الجمال في الإبداع مرتبط أيضاً بالشباب، ولهذا ناصب مرور سنوات العمر العداء. كان يقول إنّه يكره عيد الميلاد لأنّه يخصم عاماً من رصيده في الحياة، وهكذا صار عمره الزمني أحد الأسرار العسكرية التي لا يستطيع أحد اختراقها. والحقيقة أنّ أغلب النجوم ينكرون عام ميلادهم ويحتفلون فقط باليوم. أما في ما يخص العام، فإنهم دائماً ما يختصرون سنوات. وحتى في الأوراق الرسمية، تكتشف أنّ هناك شيئاً ما "غير مضبوط"!   في 13 آذار (مارس)، تحلّ ذكرى عيد ميلاد الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب. كل المراجع العلمية تذكر أنّه ولد يوم 13 مارس، لكنّ السؤال هو أي عام، إذ كان عبد الوهاب يتهرب دوماً من الإجابة القاطعة. ترك أكثر من وثيقة تضاربت فيها الأعوام. مثلاً لو راجعت أوراق جمعية المؤلفين والملحنين ومركزها الرئيسي في باريس لاكتشفت أنّه من مواليد 1910. ولو عدت إلى رسالة دكتوراه قدمتها عنه أستاذة مادة الموسيقى في كلية التربية الموسيقية المصرية صيانات حمدي، ستجد أنّه ذَكر لها أنّه من مواليد العام 1914 بينما كان لديه جواز سفر يشير إلى أنه من مواليد 1908. وكان الموسيقار الكبير محمد القصبجي يقول إنّه أكبر من عبد الوهاب بـ 5 سنوات فقط أي إنّه طبقاً لشهادة القصبجي من مواليد 1898. إلا أنّه بمراجعة كل الملابسات التاريخية ومقارنتها بأغنيات وألحان عبد الوهاب، يصبح الموعد الأقرب إلى المنطق والصحة هو 1901 أي أننا سنحتفل هذه الأيام بمرور 112 عاماً على ميلاد "بلبل مصر" ومطرب الأمراء والملوك الدكتور واللواء وموسيقار الجيل والجيلين ثم الأجيال محمد عبد الوهاب. جميع الألقاب السابقة كانت من نصيب عبد الوهاب على مدى حياته المديدة. كان يعيش بيننا حتى تجاوز التسعين، فقد رحل في 5 أيار (مايو) 1991!   لا يريد الإنسان أن يعترف بأنّه ضاع من عمره الكثير، فيحاول أن يقلل من فداحة الخسارة وليس عبد الوهاب وحده الذي كان يخشى ذكر سنة ميلاده. أم كلثوم كانت تخشى ذلك أيضاً. أتذكر أنّ مصطفى الفقي كتب "بورتريه" عن أم كلثوم قبل خمس سنوات حيث أشار إلى أنه عندما استقبلها في إنكلترا عندما كان يعمل في شبابه ملحقاً ثقافياً في السفارة المصرية، اكتشف أثناء إنهائه إجراءات دخولها إلى المطار أنّها أصغر في الأوراق الرسمية بحوالي عشر سنوات من عمرها الحقيقي. وقالت لي رجاء الجداوي مرة إنّها في كل مرة كانت تجدّد جواز سفر خالتها الفنانة الكبيرة تحية كاريوكا، كانت تكتشف أنّ تاريخ ميلاد تحية تُختصر منه سنوات حتى أنّها في آخر جواز سفر لها كان عمرها المدوّن أصغر من ابنة شقيقتها رجاء الجداوي بـ 15 عاماً؟! لماذا يلجأ الفنان إلى التلاعب بتاريخ ميلاده؟ ربما هو الحرص على المعجبين حتى يظل صالحاً كي يتعايش مع كل الأعمار أو لأنّ السنوات التي تمضي لا تعود، وهو لا يريد أن يعترف بأنه ضاع من عمره الكثير. ولهذا يحاول أن يقلل قدر المستطاع من فداحة الهزيمة. وربما تجد في كلمات الشاعر الكبير الراحل كامل الشناوي أثناء الاحتفال بعيد ميلاده تفسيراً لكل ذلك "عدت يا يوم مولدي، عدت يا أيها الشقي، الصبا ضاع من يدي، وغزا الشيب مفرقي، ليت يا يوم مولدي، كنت يوماً بلا غدِ". رغم ذلك، فإنّ حياة الإنسان العادي تقاس بالسنوات، لكن حياة المبدعين الكبار أمثال عبد الوهاب تحسبها بما تركوه لنا من جمال فني، وكل عام وإبداع موسيقارنا الكبير بخير، فلا نزال في عيد ميلاده الـ 112 نعيش على نبضات أنغامه!