بعد انتهاء حفل توزيع جوائز الأوسكار، كان السؤال عن فيلم العام الذي حصد القسط الأكبر من الجوائز. جاءت الإجابة أنّه بلا شك فيلم "حب" للمخرج النمساوي مايكل هانيكي الذي بدأت رحلته مبكراً مع الجوائز. اقتنص في البداية سعفة "كان" في أيار (مايو) الماضي مروراً بجوائز مسابقة أفضل فيلم أوروبي ثم "سيزار" الفرنسية التي تقابل "الأوسكار" الأميركي ثم توِّج بجائزة أفضل فيلم أجنبي في الأوسكار. مع ذلك، عندما سألوه عن شعوره بكل هذه الجوائز، أجابهم أنّه بالتأكيد في حالة نشوة، لكن يبقى إقبال الجمهور على الفيلم أهم جائزة ينتظرها في حياته. لا يزال تعبير "أفلام مهرجانات" يتردد بين الجمهور والنقاد على اعتبار أنّ هناك بالفعل أفلاماً يحرص صنّاعها على أن يقدموها للمهرجانات من دون أن يستوقفهم الجمهور لأنّ هدفهم هو جائزة المهرجان! الأمر يحوي قدراً لا ينكر من الصحة عند بعض السينمائيين الذين يقولون إنهم ينتظرون حكماً آخر هو حكم المهرجانات والنقاد عندما ينكرهم الجمهور ولا يقبل على أفلامهم، ما أدى إلى أن نجد أنفسنا أمام خط فاصل و"بون" شاسع بين أفلام الجمهور وأفلام المهرجانات. ولو تتبعت منهج المسؤولين عن الاختيار في أكبر المهرجانات مثل "كان" في العقد الأخير، ستكتشف أنّ نسبة غالبة للأفلام المشاركة داخل مختلف التظاهرات سواء في المسابقة الرسمية أو في التظاهرات الموازية مثل "نظرة ما" أو في قسم "أسبوعي المخرجين" أو "أسبوع النقاد" هي أيضاً تلك الأفلام التي تتمتع بالحس الجماهيري! المسافة تقلّصت أو في طريقها لكي تنتهي الفجوة بين الأفلام التي يقبل عليها الجمهور، والأفلام التي لا تقبل عليها إلا المهرجانات بالجوائز التي تنهال عليها والنقاد بعبارات المديح والإطراء. ثم مَن قال إنّ أفلام الجوائز تخلو من الحس الجماهيري؟ هناك مثلاً فيلم "تايتانيك" أو "مليونير العشوائيات" الحائزان الأوسكار في عامي 1998، و 2009. كما أنّ فيلم "حب" حقق نجاحاً في العروض التجارية التي أتيحت له في أكثر من دولة خليجية وعربية! في تاريخنا السينمائي عدد من الاستثناءات وهي الأفلام التي ناصبها الجمهور العداء بل رشق دار السينما بالحجارة احتجاجاً عليها بينما انتصر لها بعض النقاد وبعض المهرجانات. أتذكر على سبيل المثال "باب الحديد" ليوسف شاهين. عندما لمح الجمهور اسم فريد شوقي على أفيش السينما، اعتقد أنّه في صدد فيلم أكشن، لكنه اكتشف بعد ذلك أنّ البطل الحقيقي هو يوسف شاهين الذي لعب دور "قناوي" بينما فريد شوقي الذي لعب دور "أبو سريع" كان بطلاً ثانياً. كان هذا عام 1958. ومع مرور السنوات أصبح "باب الحديد" فيلماً جماهيرياً يقبل عليه الجمهور عندما يعاد عرضه على التلفزيون، بل إن هذا الفيلم الأبيض والأسود عرض قبل سنوات عرضاً تجارياً في فرنسا وحقق مكسباً وصل إلى 100 ضعف ميزانية إنتاجه. وذهبت الحصيلة إلى شركة إنتاج يوسف شاهين. أيضاً، فـ "شيء من الخوف" لحسين كمال دخل تاريخ السينما. لكن عند عرضه عام 68، لم يحقق أي إيرادات. ثم صار بعد ذلك إحدى علامات السينما المصرية والعربية والنداء الشهير "جواز عتريس من فؤاده باطل" أصبح إحدى المقولات الشعبية التي ترددت بقوة بعد ثورات الربيع العربي! أذكر أيضاً الفيلم الاستثنائي وأعني "المومياء" لشادي عبد السلام عام 69 الذي يعد تحفة سينمائية بكل المقاييس وحقق للسينما العربية تواجداً في كل المحافل السينمائية الدولية بل إنّ "معهد العالم العربي" في باريس يطلق اسم شادي عبد السلام على قاعة عرض تحية منه لهذا المخرج العبقري. وقد عرض مهرجان "كان" قبل ثلاث سنوات هذا الفيلم في قسم "سينمات العالم" وألقى المخرج مارتن سكورسيزي محاضرة عن إبداع شادي. لكن الجمهور لم يقبل على فيلم "المومياء" لأنه يقدم لغة سينمائية مغايرة لما تعود عليه هذا الجمهور المكبل بالطبع بتراثه السينمائي. السينما بطبعها أداة تواصل شعبية والمخرج يقدم أساساً فيلمه للناس ويعنيه في الدرجة الأولى أن يقبل الجمهور على الفيلم وبالطبع لا بأس بأن يجمع الفيلم بين النجاح الجماهيري والنقدي! المسافة التي كانت شاسعة بين أفلام المهرجانات وأفلام الجمهور باتت أو كادت تنحصر في تلك التجارب التي تحمل روحاً تجريبية. من ناحيتها، صارت المهرجانات تضع هذه الأفلام على هامش المسابقة الكبرى لأنّ الأفلام صنعت من أجل الجمهور، قاطع التذكرة، وليس الجمهور الذي يقاطع الأفلام. خذوا الدرس من المخرج مايكل هانيكي وفيلمه "حب" الذي ارتفع رصيده من الجوائز ولا يزال يحقق إيرادات ضخمة برغم أنه يتناول قصة حب رومانسية لعجوزين في الثمانين من عمرهما!