بحثت كثيراً عن أحد يجروء أن يتحدث للصحافة عن حكاية إصابة قريب له بمرض الزهايمر، اتصلت بجمعية العناية بمرضى الزهايمر في الأردن وقال لي الطبيب المسؤول إن هذا الأمر شبه مستحيل. وكنت أعرف أن والدة صديقتي رنا الكاتبة والصحافية أصيبت بـالزهايمر منذ أعوام،  فاتصلت بها وطلبت منها نشر قصة والدتها المصابة بالمرض مع صورة، شهقت وقالت إن ذلك مستحيل "إخوتي يخجلون منها للأسف". ورغم أن المشرف على حالة الأم هو ابنها الطبيب ومعظم أبناءها متعلمين فمنهم الطبيب والمهندس والصحافية والأستاذة في الجامعة، لكنهم يشعرون بأن إصابة والدتهم بالزهايمر أمر مخجل اجتماعياً ويجب إخفاؤه. قلت لها: دعيني أنشر الحكاية ولن أذكر الاسم صراحة. تعرضت الأم إلى صدمة نفسية منذ 13 عاماً حين فقدت ابنتها الكبرى داليا، وكانت هذه صدمة  ثانية بعد أن فقدت العائلة الفلسطينية كل ماتملك أثناء غزو العراق للكويت. تقول رنا "فقدان أختي الكبرى التي كانت شاهدة على كل  شيء جعل أمي تشعر بخطر غامض في حياتها وفقدان ابنتها وصديقتها وشاهدة أساسية على ما لقيته وعانته في حياتها". وتضيف "في البداية أصبحت تردد الكلام القديم وتتحدث عن الماضي ولديها رغبة جارفة بعودة الماضي". ثم النسيان دخل على الخط منذ 5 أعوام، حين شخصت طبياً بأنها تعاني من ألزهايمر ثم تدهورت حالتها بشكل حاد في آخر عامين وأصبحت في حالة خرف تام". شكّل إصابة الأم بالزهايمر صدمة قوية لأنها لم تكن سيدة عادية أو منكسرة أو ضعيفة الشخصية. لقد بنت العائلة كاملة على كتفها، من هنا تأتي صعوبة تقبل الوضع من أولادها و من عرفوها، لذا كثيرا ما يبكون، خصوصا حين تعتب على عدم زيارتهم أمام العامة، أو حين يكتشفون أنها سألت أغرابا عن إمكانية إرجاعها لبيتها. تقول رنا "ثمة شيء جارح جداً، فقد كانت أمي امرأة قوية وصاحبة رأي مسموع في العائلة الكبيرة كلها من الأعمام والأخوال، ونعتبر ماحدث لها نكسة حقيقية لنا وهي الآن في الخامسة والستين وكنا نتخيلها ستكون في عزّ حكمتها في هذا العمر ولكن لقد انكسر ظهر العيلة بمرضها". تستحضر الأم الحكايات القديمة، الماضي هو حاضرها، والحاضر مجرد وهم ليس له وجود حتى لو حاول أحدهم الحديث عنه، تنسى الوجوه والناس ولا تعرف أحفادها ولا تستطيع أن تحكي لهم الحكايات ولا أن تلاعبهم وتترك ذكريات الجدة الحلوة والحنونة لهم، هم لا يعرفونها أيضاً حتى وإن كانوا يرونها كل يوم. صارت أم رنا تلبس ثوبها وتعزم الخروج حالا كي تتفقد شجرها في بيتها القديم، ووصلت بها الأمور أن صارت تسأل حتى من لا تربطها بهم علاقة عن إمكانية اصطحابها لبيتها القديم. و تغضب إن سألتك عن اسم الفرّان و لم تعرفه ! الفرّان الذي كان قبل 50 عاما في الحي حيث كانت مازالت مراهقة. تسألك في الجلسة السؤال نفسه كل خمس دقائق، أسئلة من قبيل هذا الطفل في حضنك من يكون؟ تقولين لها ابني فتفرح به و تسمّي عليه، وبعد خمس دقائق بالضبط تسأل: الطفل في حضنك من يكون؟ النسيان أكل عقلها. ?أيضا تعيد الحكاية بتفاصيلها كأنها مسجل وفي الجلسة الواحدة، يمكنك أن تسمع الحكاية نفسها حوالي ثلاث مرات. قبل فترة أمسكت بحكاية سمعتها من والدتها وهي صغيرة و أعادت نفس التفاصيل حوالي 3 إلى 4 مرات في جلسة لم تتعدّ الساعة. وهناك لحظات من الوعي تمر في ذهن والدة رنا التي تقول "أحياناً تبدأ أمي بالبكاء و تقول أنا صرت أنسى هل خرّفت؟ فنهدئ من روعها. بعد دقائق فقط تعود لعادتها في الحديث عن القديم و تكرار السؤال". وعن العلاج الذي تتناوله تقول رنا " أخي طبيب وهو المشرف على حالتها وهي تتناول حبوبا حتى لا تفقد ذاكرتها الحالية تماما لكني أشعر أنها بلا فائدة. القديم تحفظه كما الأرشيف حتى بنبرة الصوت التي قيلت بها تلك العبارات يوماً، لكن الجديد كله منسي حتى لو قبل دقائق". وتضيف" بمجرد خروجنا من عندها ووصولنا البيت تبدأ في اللوم والعتب أمام جيرانها أن أحدا لم يزرني منذ ثلاثة أيام ! تفترض دوما أن العيد غدا،ربما لأنه يرمز لها بالازدحام و الحركة، و هي تحبه جدا. لذا تحضر قهوة و حلويات في معظم الأيام على أساس أن العيد غدا". ولكن لماذا تتركونها تعيش وحدها؟ أتساءل، فتسارع رنا لتجيب وكأنها تخشى اللوم "أمي تعيش بجانب بيت أخي وقد حاولنا إخراجها من البيت وإسكانها عندي أو عند أحدنا ولكنها انهارت تماماً فالبيت هو الهوس بالنسبة لها، لذلك نبذل جهد خرافي في اقناعها حتى بزيارة أحدنا، ودوما لديها هوس ان أحدا سيصيب بيتها بمكروه. كما أننا وضعنا معها ممرضة متخصصة بالعناية بمرضى الزهايمر لا تتركها ليلا نهاراً". أعاود السؤال بطريقة أخرى: ألم تتعرض لأي خطر أو تؤذي نفسها بسبب الزهايمر والنسيان؟ "أجل قبل أيام خرجت الممرضة دون علمنا واستخدمت أمي الغاز ونسيته مفتوحاً لولا لطف الخالق فينا لاحترقت". إذن فهي لا تستطيع أن تعتمد على نفسها والخادمة أو الممرضة قد تخرج دون علمكم فمالعمل؟ لا ترد رنا بل تهمهم تقول "والله مابعرف". وتزيد "حالتها النفسية تردّت و صار عندها خوف شديد من الفقد ولديها خوف دائم من الخادمات و تتهمهن بسرقتها باستمرار، الزهايمر لا يجعلها تخرف وتنسى فقط بل يجعلها تتهيأ بعض الأمور أيضا". الثقافة المجتمعية للأسف لا تسمح لنا بالتعامل مع الزهايمر بطريقة أخرى، نحن نعتقد أنه خرف أو مرض الكبر ولابد منه. وحتى لا نكلف أنفسنا الذهاب لمختصين لفهم الطريقة المثلى للتعامل مع أقرب الناس إلينا وهم في أصعب مراحل حياتهم. حب الأم والأب والجدة والجد ليس مجرد زيارات نهاية الأسبوع والطهي لهم، إنه مهمة تتطلب منا بذل الوقت والبحث عن طرق لنجعل أيامهم أفضل. لا تنسي ولا تنسى قد تكون يوماً ما مكانهم.