قبل أكثر من نصف قرن، أراد الكاتب الساخر المصري الكبير أحمد رجب أن يكشف للقراء إلى أي مدى يتحذلق كثيرون في كتاباتهم التحليلية عن الأعمال الفنية الحديثة. وكان وقتها قد بدأ البعض يتداول مفاهيم مسرح العبث واللامعقول، مؤكداً على أنّ هذا هو الفن الحقيقي وأنّ ما قبله يخاصم روح الفن كما ينبغي أن يكون!

كتب أحمد رجب مسرحية أطلق عليها اسم "الدخان الأسود". كانت مجرد كلمات بلا رابط ولا منطق، فيما لم يتجاوز بناؤها كلمة هنا وأخرى هناك، وأطلع عليها عدداً من النقاد والفنانين قائلاً إنّها من تأليف صموئيل بيكيت، وأنه فقط تولى ترجمتها إلى اللغة العربية، وسينشرها في مجلة "آخر ساعة"، وينتظر أن يتحفه النقاد والفنانون بآرائهم ليحفّز القراء على متابعتها. ووقع في المصيدة عدد كبير منهم، وشربوا المقلب، وراحوا يعدّدون مواطن الإبداع والجمال في تلك التحفة الرائعة. ثم نشر رجب توضيحاً لاحقاً مفاده أنّ كل ما كتبه ليس له علاقة ببيكيت وأنه كتب شيئاً لم يكن يدري مضمونه.
وفي إطار "مهرجان الخليج السينمائي" وبين أكثر من 150 فيلماً جاداً مع اختلاف درجة الأهمية، كانت هناك تجربة لـجيرار كوران الفرنسي الذي قدم الناقد صلاح سرميني كتاباً عنه واصطحب تجربته الغريبة إلى المهرجان.

يقدم المخرج ما اصطلح على تسميته بـ "سينما تون" وهي كلمة تعني التحديق كما يقول مؤلف الكتاب. العلاقة بين المخرج ومن يصوّرهم لا تتعدى مسألة اختيارهم عشوائياً. ثم يطلب منهم "البصبصة" في الكاميرا لمدة 3 دقائق و20 ثانية وهو الزمن الفعلي لعلبة شريط فيلم 8 مللم التي كان يصوّر بها المخرج أفلامه في البداية. جيرار لا يطلب شيئاً ممن يصورهم، لكنه يتركهم أحراراً في امتلاك هذا الزمن بينما يختفي هو بعيداً!

طقوس المشاهدة تعني أنّه من حقك أن تدخل دار العرض، وتغادرها في أي لحظة، وتأكل الفوشار، وتتحدث مع من يجلس بجوارك وتتلقى اتصالاً... كل ذلك مباح. إنها علاقة بين طرفين، أحدهما يحدق ناظراً إلى الكاميرا، والثاني يحدق ناظراً إلى الشاشة!

المخرج يصف نفسه بأنّه الأكسل في العالم لأنه يترك للمتلقي أن يضيف ما يحلو له ويترك لمن يصوّرهم أن يحددوا كل شيء. وبعد ذلك وقبله، لا علاقة له بشيء!

ربما يفسر البعض بأنّ هذه عودة إلى السينما كما بدأت عام 1895 على يد الأخوين لويس وأوغست لوميير. صوّر الاثنان بكاميرا ثابتة خروج فتيات المصنع. كانت الكاميرا لا تملك إمكانات أكثر من أن تلتقط صورة كانت تتحرك وقتها بـ16 كادراً في الثانية قبل اختراع شريط الصوت عام 1927، فأصبح الكادر 24 صورة. منذ بداياتها، شهدت السينما محاولات لا تنتهي من الإضافات. تطورت السينما من خلال خطين متوازيين هما تطور الآلة وتطور الإبداع. مثلاً، أضاف المخرج الفرنسي الساحر جورج ميليس الكثير إلى الكاميرا وكان يلوّن الأشرطة بيديه. في فيلم مارتن سكورسيزي الأخير "هوغو"، تناول جانباً من حياة ميليس. وفي دورة مهرجان "كان" الأخيرة، عُرض فيلم ميليس "الصعود إلى القمر" الذي أخرجه عام 1902 في إطار إعادة اكتشاف تاريخ السينما. كانت هناك دوماً وجهة نظر وخيال. وهكذا دخل ميليس التاريخ لأنه أضاف إبداعاً تقنياً وأضاف أيضاً خيالاً. ومع الزمن، عرفت السينما الكومبيوتر والصوت الدولبي، ووصلنا إلى سينما الأبعاد الثلاثة، ولن تتوقف المسيرة. هناك دوماً أفكار علمية تضيف إلى الرؤية بينما يريد جيرار أن يعود إلى الخلف أكثر من 115 عاماً مع بداية اختراع الكاميرا لتثبيت الرؤية. والحقيقة أنّ الأخوين لوميير لم يتركا الكاميرا، بل قررا التفكير والاختيار ثم التصوير والعرض، ولم يكن الأمر عشوائياً. في بدايات اختراع السينما، عندما تُصوّر مثلاً قطاراً يخرج من المحطة، فلا يمكن اعتبار الأمر ارتجالياً لأن المخرج اختار لحظة فارقة أدت إلى فزع الجمهور الذي خيّل له أنّ القطار في طريقه إليه ليقتله.

هل كل خروج عن المألوف هو فن؟ الإجابة قطعاً لا. يجب أن تتحدد وجهة النظر منذ أن تضع الكاميرا أو عندما تُمسك بالقلم. الفن الارتجالي الذي رأيناه مثلاً عند الكوميديا الإيطالية دي لارتي لم يكن مجرد خروج على النص بل ارتكزت إلى خطوط عريضة تحكم التتابع. وبعد ذلك، تُرك الممثل يضيف ما يحلو له وللجمهور أن يضيف أيضاً.

شاهدنا عبر التاريخ بعض المخرجين يقيّدون الزمان والمكان في السينما كما في الفيلم البريطاني "12 رجلاً غاضباً" لسيدني لوميت الحاصل على الأوسكار في نهاية الأربعينيات، وما قدمه صلاح أبو سيف بعد ذلك بعشر سنوات في فيلمه "بين السماء والأرض". كان الزمن في الفيلم الأول محدوداً في إطار الواقع وهو مداولات هيئة المحلفين. وكان الزمن في الثاني محكوماً ببقاء ركاب المصعد أثناء إقامة مباراة كرة القدم. كما أنّ المكان كان أيضاً مقيداً بغرفة المحلّفين في الفيلم البريطاني، والمصعد في المصري. تقييد الزمن والمكان كانت له ضرورة درامية. مع ذلك، حكى لي المخرج الراحل صلاح أبو سيف بأنّ أحد المتفرجين خرج غاضباً من دار العرض. وعندما شاهده قال له: "حرام عليك خنقتنا".

في تجربة المخرج جيرار التي شاهدت جانباً منها في مهرجان "الخليج"، لم أشعر أننا في صدد مبدع، بل هناك فقط مَن يحاول أن يحطم القاعدة بحجة أنّ هذا هو نوع من الإبداع. قد يرى البعض في ما شاهدناه ما يمكن أن نطلق عليه جنون الفن تبعاً لتلك المقولة الشهيرة "الفنون جنون"، لكن ما رأيته حقيقة كان مجرد شخبطة على الحيط قد يراها البعض فناً. لكني لم أستطع أن أراها فقط سوى نوع من الجنون. فما رأيكم أنتم؟!