عاشت في زمن الأجداد ووثّقته في لقطات مصوَّرة. نقلت بعدستها لمحات من الزمن الجميل لتظل مرجعاً لها عبر السنين، إنها شيخة جاسم السويدي، أول مصورة إماراتية، والتي لقبت بـ«شيخة المصورين».

نقلت بالصورة ملامح الماضي، فصورت الأحياء القديمة والفرجان التي تنقّلت بينها، وبيوت العريش التي عاشت فيها، والبيئة البحرية وسفن الصيد واللؤلؤ والتجارة. استحوذت الصورة على اهتماماتها، واحتفظت بها في ألبومات تحمل ذكريات جميلة لأشخاص أعزاء على قلبها، منهم الأموات والأحياء، ومنهم مَن يشغلون الآن مناصب قيادية ومهمة في الدولة.

كلما اشتاقت شيخة جاسم السويدي إلى الماضي، فتحت صندوق الذكريات في حجرتها، لتشاهد صوراً كانت بالأمس القريب واقعاً تعيش فيه، وتتذكر كيف كانوا وكيف عاشوا وكيف أصبحوا الآن؟ خلف مركز «الواحة» للتسوق في شارع الشيخ زايد في دبي، تسكن شيخة جاسم السويدي، حيث تطل نافذة مجلسها على دبي الحديثة و«برج خليفة»، بينما تحتفظ داخل غرفتها في دبي القديمة بكل تفاصيلها، من خلال صور فوتوغرافية التقطتها منذ أكثر من ستين عاماً. 

في طفولتها، التحقت شيخة بـ«جمعية النهضة النسائية»، حيث تعلمت حتى الصف الخامس الابتدائي، علماً بأنها كانت ثاني امرأة تحصل على رخصة قيادة سيارة في دبي في القرن الماضي. هي فنانة بالفطرة، تهوى فن التصوير الفوتوغرافي والرسم والأشغال اليدوية التراثية. 

تنظم الشعر النبطي وتحفظ عن والدتها أشعاراً من الفصحى، فضلاً عن أنها تتميّز بخفة ظل غير عادية. لديها أربعون حفيداً، منهم ستة أحفاد ورثوا عنها موهبة الرسم والتصوير، إضافة إلى ابنتها خلـود، الحاصلة على بكالوريوس في العلوم، والتي فازت عام 2010 بـ«جائزة العويس الفنية» التي نُظّمت في لندن عن لوحتها «البُرقع». «زهرة الخليج»، التقت «شيخة المصوّرين»، لتستعيد معها ذكريات الماضي الجميل في هذا الحوار.

في دائرة الضوء
بدايةً، لماذا فكرتِ في الكشف عن موهبتك في مجال التصوير الفوتوغرافي، والخروج إلى دائرة الضوء بعد هذا العمر؟
منذ أكثر من نصف قرن وأنا أصور نفسي مع الأهل والأصدقاء، وأصور جوانب من حياتنا وبيوتنا التي كنا نعيش فيها. وكنت أحتفظ بهذه الصور داخل صندوق مُغلَق لم يَطَّلع عليها أحد، ولم أخرجها إلا حينما أشتاق إليهم، لأتذكر أيام طفولتي التي قضيتها معهم. ومنذ عامين فقط، فكرت في أن أخرج هذه الصور النادرة إلى دائرة الضوء، خاصة بعد التطور الكبير الذي شهدته دبي، ليرى الناس كيف عاش الأجداد، وكيف كانت ملامح عصرهم. 

فالصورة بالنسبة إليّ بمثابة كنز يعكس ملامح عصر الأجداد. وشجعتني على ذلك ابنتي أمينة التي تعمل في هيئة الأوقاف في دبي، فشاركت في فعاليات معرض «أيام في ذكرى عيد جلوس الشيخ محمد 2010» في دار ابن الهيثم في البستكية، وأقمت أول معرض صور فوتوغرافية عن دبي القديمة. كما شاركت في معرضي الثاني الذي كان بعنوان: «من عَبَق الماضي» بثلاثين صورة تعكس ملامح دبي القديمة، وكرَّمني الشيخ منصور بن محمد، باعتباري أول مصورة في الإمارات، كما حصلت على جوائز عدة أُخرى.

ما أهمية الصورة بالنسبة إليكِ؟
لم أتخيّل يوماً، أنّ صُوَر الأبيض والأسود التي التقطتها منذ أكثر من ستين عاماً وأصبحت طي النسيان، سوف تحمل قيمة مهمة في المستقبل. لم أقصد وقتها أن أوثّق لحياة قديمة عشناها، بقدر ما كنت أمارس هواية التصوير مع الأهل والصديقات والجيران. بالصورة وثّقت لفترة الخمسينات من القرن الماضي، ونقلت ملامح العصر من خلال الحي، وبيوت العريش التي كنّا نعيش فيها. فهي بالنسبة إليّ كنزٌ لا يُقدَّر بثمن، وأحتفظ بها في صندوق مُغلَق داخل حجرتي، ولا أفتحها ولا يَطَّلع عليها أحد، لأنها أسرار عائلات، إلا عندما أشتاق إلى جاراتي وصديقاتي، فأُخرجها لأشاهدهنّ وأذكُرهنّ بالخير.

مَن علّمكِ التصوير الفوتوغرافي؟
في الخمسينات من القرن الماضي، كان في خور دبي مكتب مسؤول عن خروج ودخول السفن من الميناء، تابع للشيخ سعيد آل مكتوم، حاكم دبي، رحمه الله، وكنت أعمل في هذا المكتب، حيث أقوم بمهمة توصيل البرقيّات، التي تأتي عبر السفن من الهند وأوروبا، إلى مكتب الشيخ سعيد آل مكتوم، بعد أن يقوم أحد الأفراد بترجمتها إلى العربية. 

وكان يعمل معنا في المكتب مواطن إماراتي، وبريطانيان اثنان، وشخصان هنديان أحدهما يُدعى جيتا، وهو الآن صاحب فندق «أمباسادور» في دبي. وقد كان جيتا المذكور، يمتلك كاميرا من نوع «أجفا»، كانت بالنسبة إلينا بمثابة شيء غريب لم نكن نعرفه. وقد كنتُ أراهُ دائماً يلتقط صوراً للسفن التجارية التي تمرُّ عبر الخور، فطلبت منه أن يعلمني التصوير الفوتوغرافي، وكان عمري وقتها سبعة عشر عاماً، فعلّمني أساليب التصوير في الشمس والظل وكيفيّة فتح العدسة وإغلاقها.

أول كاميرا
ما نوع أول كاميرا استخدمتِها، وكيف حصلت عليها؟
أول كاميرا اشتريتها في الخمسينات، وكانت من نوع «أجفا» ودفعت ثمنها عشرة دراهم، وقد اشتريتها من محلات «عبد الكريم كابتن»، وهو أول وكيل للكاميرات في الإمارات.

ما ذكرياتكِ عن أول صورة التقطتها؟
أول صورة التقطتها كانت لنفسي، وكان عمري وقتها سبعة عشر عاماً، بعد أن تعلمت ضبط الوقت في التصوير الأوتوماتيكي، ثم بدأت ألتقط صوراً لنفسي مع جيراني، وصديقاتي. كما كنت أصور سفن الصيد والتجارة في ميناء دبي.

مَن علّمك تحميض الصور؟
كانت ابنة الدكتور محمد حبيب آل رضا، طبيب الشيوخ آنذاك، تُجيد تحميض الصور، فطلبتُ منها أن تعلمني، خاصة بعدما رأيت صور الصحف التي كانت تأتينا من خارج الدولة. وقمت بعد ذلك بتحويل إحدى غرف المنزل إلى معمل للتحميض، واشتريت له كل المعدات اللازمة من الورق الأحمر الشفاف وأدوات التحميض، وجهّزت المعمل بالضوء الأحمر والمواد الكيميائية.

أجمل صورة
ما أجمل صورة في نظرك؟
صورة والدتي وهي ترتدي البُرقع وأنا إلى جوارها، وكان ذلك منذ 65 عاماً. إلى جانب صور أُخرى التقطتها أثناء زيارتي مدينة بومباي في الهند، حيث رأيت هناك الكهرباء ومصابيح الإنارة لأول مرة، فصوّرتها، كما التقطت صوراً لرقصات شعبية هندية، وممرضات نزيلات في أحد المستشفيات هناك، كان من بينهم إماراتيون. فهذا المستشفى كان يقصده ميسورو الحال للعلاج.

ما الصورة التي تحمل لكِ ذكريات كثيرة لم تنسيها؟
صور حريق كبير شب في دبي أوائل الستينات من القرن الماضي، واحترقت فيه معظم بيوت العريش، وامتد من متحف الفهيدي عند ديوان حاكم دبي حتى بحر الشندغة، وراح ضحيته عدد من الناس، وفزعت منه الأسر. وصورة أخرى لغرق إحدى السفن التجارية في خور دبي، وصورة أول بنك أنشئ في دبي وهو «البنك البريطاني»، إضافة إلى جمع من الأهل والأصدقاء، كما قمت بعمل مجموعة من الصور لمراحل نمو ابنتي خلود منذ ولادتها حتى كبرت.

ما الصورة التي تتمنّين لو أنك سجلتها بعدستك؟
كنّا نعيش في بَـرّ دبي في البستكية، وكان إلى جوارنا «دار ابن الهيثم» وديوان الحاكم. وقتها، عاصرتُ طفولة المغفور له صاحب السمو الشيخ مكتوم آل مكتوم، والشيخ مانع آل مكتوم، ولم أتجرأ على تصويرهما على الرغم من أنني كلفت ذات مرة باصطحابهما وهما طفلان، لأشتري لهما دراجتين من محلات «جعفر»، أول وكيل للدراجات في ذلك الوقت. كما ندمت على عدم تصوير قوارب «التشالة» الصغيرة، التي كانت تنقل البضائع من السفن داخل الخور وتقوم بتفريغها على الشاطئ، وكانت تلك القوارب مملوكة لكبار التجار.

وتمنيت أيضاً أن ألتقط صوراً للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيَّب الله ثراه، بعد إعلان دولة الاتحاد، وعند رفع علم الدولة للمرة الأولى في دبي. فقد لمسنا التغيير في المجتمع من خلال المنح والمساعدات المادية التي كانت تُقدّم للأسر، ولطلبة العلم من أجل تشجيعهم على مواصلة تعليمهم، وأصبح الناس يعيشون في رَغَد وعَمّ الرخاء في الوطن، ورصّفت الشوارع، وأنارتها أعمدة الكهرباء. كما اهتم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، بالأرامل والمطلّقات، ووفر لهنّ حياة كريمة.

دهشة وفرح
ماذا كان شعوركِ عندما رأيت كاميرا التصوير الفوري للمرة الأولى؟
شعرتُ بالدهشة والفرح عندما رأيت أول كاميرا للتصوير الفوري، وعلى الفور قمت بشرائها، لتصوير المناظر الطبيعية بالألوان، وبخاصة في مزارع الفجيرة وكلباء. كما صورت بها أبنائي وهم يسبحون في أحواض السباحة، وصورت حفلات مدارسهم، خاصة في عيد الأم، كما كان لزوجي نصيب من تلك الصور، كما وثّقت بالصورة مشاركاتي في المعسكرات والأنشطة التي كانت تُقام في مكتبة زعبيل.

هل ورث أبناؤك موهبتك الفنية؟
أعتقد أن لديهم الحس الفني ذاته، فابنتي خلود خريجة كلية العلوم في «جامعة الإمارات»، حصلت على «جائزة العويس الفنية» عام 2010 في لندن عن لوحتها « البرقع». كما أن ابني يهوَى فنّ الخط ولا يعمل به، كذلك ورث 6 من أحفادي موهبة التصوير والرسم.

دور المرأة
هل كان للمرأة دور في الماضي؟
على الرغم من العادات والتقاليد، وصعوبة خروج المرأة، إلا أنها شاركت في الحياة الاجتماعية والعامة، وكانت تساند الرجل وتقف إلى جانبه، وتساعد أسرتها من خلال العمل. وأذكر أنه عندما انتشر وباء «الجدري» في الخمسينات من القرن الماضي، لم يكن هناك مستشفيات، فكانوا يحجزون المرضى في حجر صحّي بعيداً عن الأماكن المأهولة بالسكان. وكان لحرم حاكم دبي في ذلك الوقت دور كبير في متابعة المرضى وعلاجهم. كما عملت والدتي بعد وفاة والدي، إذ حملت الخنجر والسيف لحراسة منازل الحي من اللصوص، براتب درهم في اليوم، لأنها كانت تتسم بالشجاعة.