بعد انتهاء "مهرجان الموسيقى العربية"، من المنتظر أن يجري وزير الثقافة المصري عماد أبو غازي تحقيقاً موسعاً لمعرفة الأسباب التي دفعت المهرجان إلى نكء الجراح القديمة بين مصر والجزائر. ملابسات دعوة المطربة الجزائرية فلّة تؤكّد أنّ إدارة المهرجان كانت تعلم أنّها على قائمة المطلوبين في مطار القاهرة، لتقديمها للمحاكمة بعد الاستئناف الذي قدمته ضد الحكم الصادر بسجنها ثلاث سنوات بتهمة أخلاقية. تؤكد فلةّ أنّ مطربة عربية شهيرة هي التي لفّقت لها التهمة قبل 18 عاماً عبر شخصية  قريبة من بيت الرئيس المخلوع بغرض إبعادها حينها عن منافستها في مصر!

لا أحد بالطبع يملك الحقيقة. فلة قضت فعلاً تسعة أشهر في السجن، وتم استئناف القضية وخرجت مؤقتاً من الحبس وتمكنت من الهروب إلى باريس، وتعيش منذ سنوات بين فرنسا والجزائر. وعندما تم منعها من دخول المطار، تدخّل وزير الثقافة المصري. لم يكن يعلم أنّها مطلوبة لاستكمال العقوبة، فالقضية لا تسقط بالتقادم في حالة الاستئناف، ولا تزال مطلوبة للمثول أمام القانون، فإما أن يؤكد الحكم أو يخفّفه أو يلغيه.

بسبب هذه الاحتمالات الثلاثة، كل ما استطاع وزير الثقافة فعله أنّه تمكن عن طريق اتصاله بوزير الداخلية أن يسمح لها بالعودة إلى الجزائر بدلاً من إلقاء القبض عليها  وتقديمها للمحاكمة.

لقد سبق أن قلت إنّ الذي وجّه الدعوة لفلة للمشاركة في مهرجان الموسيقى إما ساذج جداً لا يعرف شيئاً أو خبيث جداً يعرف كل شيء، ويسعى بدهاء إلى زرع أسفين بين البلدين. والآن، أقول إنّه كان يعرف كل شيء وأراد أن يضع الجميع في حرج. فإما أن تدخل فلة الأراضي المصرية وتشارك في الحفل، أو يُعتبر أن السلطات المصرية تعنّتت على خلفية مباراة أم درمان التي شهدت قبل عامين تلاسناً وتجاوزات إعلامية بين البلدين!

بداية لا أتصور أنّ العلاقات الطبيعية بين مصر والجزائر قد تعود إلى المربع رقم واحد، ونشهد انفلاتاً إعلامياً مرة أخرى. لكن الأمر سوف يحتاج إلى مجهود دبلوماسي من الجانب المصري لتوضيح الموقف. ومن المنتظر أن يعلن وزير الثقافة المصري عن استقبال الأوبرا المصرية قريباً لعدد من المطربين والمطربات الجزائريين لإغلاق الباب
أمام أي احتمال لسوء الفهم أو المزايدات!

ارتكبت رتيبة الحفني الأمين العام الأبدية لـ "مهرجان الموسيقى العربية" (20 عاماً) خطأ في توجيه الدعوة لفلة وهي تعلم تفاصيل القضية. وتورطت في خطيئة أكبر عندما ربطت بين رفض الدولة لدخول فلة البلاد واستمرار مقاطعة مصر لكل ما هو جزائري. بل وصل بها الأمر إلى حد تشبيه فلة بالموسيقار الكبير بليغ حمدي الذي أدين بتهمة تسهيل الدعارة.

 لكنّها لم تذكر أنّه لم يدخل مصر إلا بعد حصوله على البراءة بينما لا تزال فلة أمام القانون المصري مدانة بالسجن ثلاث سنوات. هل د. رتيبة غائبة أم مغيبة ولا تدري حقيقة ما جرى؟!

لا شك في أنّ هناك مَن أراد أن يستغلّ الفرصة ويضع فلة في معادلة مصر والجزائر لتصبح هي عنوانها. في الجزائر أصوات عديدة تستحق الاحتفاء مثل زكية محمد، وحسنية حمروش وفؤاد رمان وغيرهم ممن يجيدون تقديم أغنيات تراثية. لماذا لم يفكّر المسؤولون في الاستعانة بأحدهم إلا إذا كان الغرض الخفي هو إحراج كل  الأطراف!

لم ننس ما حدث من انفلات إعلامي في أعقاب مباراة مصر والجزائر في أم درمان وما فعله النجوم، وأقصد قسطاً وافراً منهم. لقد أرادوا مجاملة علاء مبارك على اعتبار أنّ ابن الرئيس هاجم الجزائر، وابن الرئيس يعبّر في العادة عن رغبات بيت الرئيس. رأينا نجوماً مثل محمود ياسين، وحسين فهمي، وعمر الشريف، ويسرا، وليلى علوي وآخرين يتحولون إلى أفواه تدافع عن الموقف المصري. وأخطأت الدولة على المستوى الرسمي عندما ألغى مهرجان القاهرة السينمائي وقتها تكريم المخرج الجزائري أحمد راشدي. وتحولت الساحة إلى تصفية حسابات على خشبة المسرح أثناء إقامة حفل ختام المهرجان. وأصدرت دار الأوبرا قراراً يحذّر من التعامل مع أي فنان جزائري، وألغت غرفة صناعة السينما في مصر عرض عدد من الأفلام المصرية في الجزائر. الزمن ضمد الكثير من الجراح، فلمصلحة من نكؤها الآن؟

لا أتصور أنّ ما حدث من أخطاء وسوء تقدير من إدارة "مهرجان الموسيقى العربية" سوف ينتهي من دون توجيه عقاب رادع لمن أراد عن سبق إصرار تعكير الصفو بين  مصر والجزائر!