أصبح اسمه إحدى علامات الجودة في السينما العربية. إنّه المخرج الجزائري مرزاق علواش الذي صار إحدى علامات السينما العربية في السنوات الأخيرة. أفلامه تصبح دوماً عنواننا العربي الأبرز والأهم في العديد من المهرجانات العالمية. في فيلمه قبل الأخير "حراقة" الذي عرض في مهرجان "البندقية" (فينيسيا) قبل عامين، تناول معاناة الشباب الجزائري الذي تقطعت به سبل الحياة، ولم يعد لديه من حلم سوى الهجرة خارج الحدود. والمقصود بكلمة "حراقة" أنّ هؤلاء الشبان يقطعون الصلة بينهم وبين الأرض التي ينتمون إليها، فيحرقون أوراق هويتهم قبل أن ينطلقوا في رحلة إلى المجهول في عرض البحر تتقاذفهم الأحلام في تحقيق الثراء، وتغتالهم الكوابيس بأن تأكلهم الأسماك المتوحشة قبل أن يبلغوا الشاطئ البعيد على الضفة الأخرى. لكنّ نهاية الفيلم جاءت مأساوية، إذ ماتوا إما غرقاً أو قتلاً. هذه المرة يشارك مرزاق في مهرجان "الدوحة" بفيلمه "طبيعي" normal الذي يتناول أحلام وإحباطات الشبان الذين قرروا التشبث بأرض الوطن وتغييره إلى الأفضل. في بنائه للفيلم، يقطع المخرج الخط الفاصل بين الرؤيتين التسجيلية والروائية من خلال حبكة درامية تقدم أيضاً معاناة الشباب الذي يتمسك بأرضه، فيقرر هذه المرة أن يصبح مناضلاً ويهتف من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية. عين المخرج توجهت إلى تفاصيل عاشها الشباب من خلال مشاهدة فريق العمل معاً لفيلم تسجيلي قدمه قبل عامين ويحاول استكماله وإضافة أشياء تتوافق مع الحالة والمزاج النفسي. إذ أنّه تأثّر بمتابعته للتظاهرات المطالبة بالحرية التي اندلعت في الجزائر قبل الثورتين التونسية والمصرية، وكذلك نجاح الثورتين اللتين قادهما الشباب وغيّر من خلالهما وجه العالم العربي كله. المخرج يستعيد الشريط الذي صوّره مع الممثلين. ونرى مثلاً الممثل الذي يرفض أن يُقبّل الممثلة التي تشاركه أداء أحد المشاهد لأنه يعتقد أن التمثيل يفرض عليه محاذير أخلاقية ينبغي الخضوع لها. لا يترك علواش هذا الموقف يمر من دون أن يعتبره خيطاً درامياً يضيف من خلاله رؤيته إلى الشباب الذي يطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية. وتظلّ الثورة حاضرة بقوة في الفيلم. لا تستطيع أن تعزلها عن الحياة الطبيعية التي يعيشها الناس في ظل واقع متغير على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية وأيضاً النفسية.

أكّدت الثورات العربية أنّ الشباب لم يتوانَ عن دفع ثمن الحرية. وكانت عين المخرج ترصد هؤلاء الشباب في كل الأوجه التي فرضت نفسها عليهم. الممثل الذي يؤدي دور المخرج في الفيلم يؤمن أن دوره كمخرج هو الأهم. إنه لا يخشى النزول إلى الشارع لكنه يفضل أن يقدم رأيه كفنان على شريط سينمائي بينما قناعات الآخرين أنّه لو اكتفى كل إنسان بالتعبير عن الثورة من خلال موقعه ولم يشارك في النزول إلى الشارع، لن تندلع أي ثورة في العالم!

هل المخرج هو معادل موضوعي للديكتاتور الذي يملك حياة الناس من خلال تحكمه بمصائرهم عن طريق المونتاج النهائي للعمل الفني، وهكذا يتم عبور الخط الفاصل بينهما؟ أقصد، تطل علينا الشخصيات التي نراها أمامنا على الشاشة بعدما تتجاوز حاجز الشاشة، وفي الوقت عينه يطل علينا المخرج متخطياً حاجز الشريط السينمائي. هل تغير الديكتاتور بعد الثورة أم أنه ظلّ قابعاً في داخل بعضنا يتحين الفرصة للانقضاض؟

الفيلم يرى أن الثورة في الشارع العربي هي التي تملك قوة الحسم الآن. الكل صار خاضعاً لإرادتها. ولهذا يبدأ الفيلم بيافطة مرفوعة عن العدالة والحرية، وينتهي أيضاً باليافطة نفسها وهي تملأ الشاشة وتهيمن على كل التفاصيل. الفيلم الذي يجمع بين الرؤيتين التسجيلية والروائية في العديد من خيوطه، يترك مساحة في نهاية الأمر لكي يقترب من الحالة الواقعية. كأننا في صدد برنامج تلفزيون الواقع. وتستطيع أن تعتبرها سينما الواقع في هذه الحالة. ولهذا كثيراً ما كانت الكاميرا المحمولة هي أداة التعبير. قليلاً ما لجأ المخرج إلى القطع من شخصية إلى أخرى. حركة الكاميرا في بعدها النفسي تشعرنا أكثر بالإحساس الواقعي. كانت التوجيهات الصارمة للممثلين في هذا الفيلم، الالتزام بحالة العفوية. وقد نجحوا تماماً في توصيل هذا الإحساس مثل عديلة بن ديمراد ونها مثلوطي ونجيب البسير. وكانت موسيقى يحيى بو شعلة تمنح الشريط المرئي وهجاً وألقاً خاصاً.

شاهدت ثورات الربيع العربي في العديد من الأفلام تسجيلية وروائية. لكني أراها من زاوية أخرى من خلال هذا الفيلم الذي أثبت به مرزاق علواش أنه لا يزال نبضه السينمائي شاباً بل مشاغباً حتى لو لم يحمل يافطة في الشارع الجزائري مثل بطل الفيلم الذي راح يطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. فيلم مرزاق علواش كان محرّضاً أكثر من أي يافطة.

 

للمزيد:

صور:النجمات "قبل وبعد"... في الأفلام


فيديو:ماذا قال صنّاع «18 يوم» عن الفيلم؟