قرأت للشاعر الإماراتي الكبير كريم معتوق على صفحات "زهرة الخليج" ضمن بابه "سوانح" قصة تحدث فيها عن الشاعر السوداني الراحل الهادي آدم الذي حقق شهرة في العالم العربي قبل أكثر من 40 عاماً. يومها، غنت له "كوكب الشرق" أم كلثوم وبأنغام محمد عبد الوهاب قصيدته "أغداً ألقاك" التي أدخلته في لحظة واحدة تاريخ الأغنية العربية وتاريخ الشعر أيضاً!


ما استوقفني في ما ذكره شاعر الإمارات الكبير أنّ الهادي آدم استجاب له مرةً وقرأ قصيدته الشهيرة في المهرجان الشعري الذي أقيم قبل سنوات في الخرطوم ويقول مطلعها "أغداً ألقاك يا خوف فؤادي من غد، يا لشوقي واحتراقي في انتظار الموعد" وذلك وسط دهشة كثيرين اعتقدوا أنه لن يفعلها بعدما أصبح معادياً لتلك القصيدة التي كان يشعر كأنها اختصرت كل تاريخه الشعري، وهو يريد أن يقول للجميع إنّ إبداعه الفني يحوي العديد من الإبداعات التي تتجاوز شعرياً "أغداً ألقاك". الغريب أنّ الشاعر الوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة ممن تغنت بأشعارهم أم كلثوم هو اللبناني جورج جرداق أمد الله في عمره الذي غنت له قصيدته "هذه ليلتي" بتلحين محمد عبد الوهاب أيضاً، وهو يعيش أيضاً المأزق نفسه... أي أنّ الناس يختصرون تاريخه في "هذه ليلتي"!


بعيداً عن الأغاني والأشعار، هناك العديد من المبدعين صار بينهم وبين إبداعهم الفني الذي يبلغ ذروة النجاح الجماهيري قدر من العداء لأنه يحجب الرؤية عن إبداعهم الغزير الآخر الذي لم يحظ بالقدر نفسه من الشهرة الجماهيرية. أتذكر مثلاً الفنان حمدي أحمد بطل فيلم "القاهرة 30" للمخرج صلاح أبو سيف والمأخوذ عن رواية نجيب محفوظ. لقد برع في أداء شخصية "القواد" محجوب عبد الدايم الذي تزوج سعاد حسني وكان يقدمها يوماً كل أسبوع إلى الوزير ورئيسه في العمل الذي أدى دوره أحمد مظهر. الناس لا ينسون مثلاً هذا المشهد الرائع بينه وبين أبيه في الفيلم شفيق نور الدين، ولا تلك المواجهة بينه وبين عقيلة راتب زوجة مظهر. حصل حمدي على عشرات الجوائز عن هذا الدور، إلا أنه أصبح لا يطيق الحديث عن "محجوب عبد الدايم" ويشعر عندما تشيد به كأنك تغتال كل تاريخه في هذا الدور!


القديرة سناء جميل لها دور لا ينسى مع المخرج صلاح أبو سيف أيضاً في فيلم "بداية ونهاية". والغريب أنه مقتبس أيضاً عن رواية لنجيب محفوظ وهو دور "نفيسة" بائعة الهوى التي غنّوا لها بعدما قبضوا عليها في قضية آداب "يا حلوة يا بلحة يا مقمعة" قبل أن تنتحر أمام شقيقها عمر الشريف الذي تنكّر لها تماماً. الغريب أنّ فاتن حمامة كانت مرشحة لهذا الدور، لكنّها لم تجرؤ على تجسيد شخصية فتاة منحرفة بل خافت أن يحطّم ذلك الصورة لدى معجبيها التي تكونت عبر العديد من الأدوار للمرأة المخلصة. إلا أنّها ـ كما حكى لي أبو سيف ـ قالت له بعدما شاهدت الفيلم في عرض خاص إنّها ندمت لأنها لم تلعبه. أما سناء جميل، فشكّل لها هذا الدور مأزقاً وعقدة لأنّ الناس صاروا يختصرون كل تاريخها الحافل بالإنجازات الإبداعية في السينما والتلفزيون والمسرح فقط في "نفيسة"!


الحقيقة أنّ كل مبدع أنجز عملاً فنياً يبلغ به الذروة. بعض الفنانين تعايشوا مع الذروة وأدركوا أنّ هذه طبائع الأمور وينبغي الإنصات لإرادة الناس مثل محمود عبد العزيز الذي اختُصر مشواره الفني عند الجمهور بـ "الشيخ حسني" في فيلم "الكيت كات" و"رأفت الهجان" في المسلسل بالعنوان نفسه. الغريب أنّ الفيلم والمسلسل كانا المرشح الأول لهما منافس محمود عبد العزيز التاريخي أي عادل إمام، لكنّ هذا الأخير كانت له تحفظات على السيناريو فتم استبداله بمحمود عبد العزيز ليدخل التاريخ الفني بهذين الدورين!


كل شيء في الدنيا له أعراض جانبية. حتى النجاح الطاغي له أيضاً وجهه السلبي، إذ يحجب الرؤية عن كل إبداع آخر. ولهذا كان شاعر السودان الراحل الهادي آدم لديه عقدة اسمها "أغداً ألقاك"!