حوار – ريما كيروز


82عاماً هو عمرها، فن الرسم التشكيلي بأسلوب الفنتازيا هوايتها، والموسيقى ميولها، وبعد.. ينتظر الشعر منها أن تكتب فيه خواطرها المخضرمة بسنوات الإبداع.


وداد الأورفه لي، الكبيرة التي رسمت لوحاتها بريشة حلم تعلّق طيلة 80 عاماً بين الأرض والسماء، تطلق ألبومها الموسيقي الأول بعنوان «أنغام عربية» الذي أرادت من خلاله أن تأخذ فيه المستمعين في رحلة من الأندلس إلى بغداد. فأي صدمة أرادت هذه الكبيرة أن توجهها إلى مترقبي إبداعاتها؟ وما الذي أرادت أن تقوله في موسيقاها ولم تقله في لوحاتها؟ وهل تخبئ في جعبتها مفاجآت أخرى؟
تحتار عند الجلوس في حضرة الكبيرة وداد الأورفه لي، كيف تبدأ محاورتها، وبأي سؤال تستهل حديثك. تحتار عن ماذا تسألها، عن الرسم؟ أم عن الموسيقى؟ أم عن الخواطر التي اكتشفنا أنها تتحضر للإفراج عنها من سجن دفترها العتيق؟ تستسلم في النهاية، تترك لها دفة الحديث، فتنساب الكلمات من فمها بتأنق، فتجرفك من دون أن تدري إلى التأمل في إحدى لوحاتها الكثيرة، والمعلقة في كل أرجاء البيت الذي تستضيفك فيه. ومثل الرسوم في اللوحات المعلقة، حيث قلبت صاحبتها العالم رأساً على عقب، تنقلب جلستك معها وتتمنى لاشعورياً ألا تنتهي، في حين تظل كلماتها تتردد في ذهنك: «هذه أنا والذي يعرفني يتقبلني كما أنا».


العلم في الصين


• إذا طلبنا من وداد الأورفه لي أن تتحدث عن نفسها، ماذا تقول؟
- ولدت في بغداد عام 1929، وبدأت دراستي في «مدرسة مدام عادل» في العراق، حيث كنت معروفة بكثرة الحركة والنشاط والشقاوة. وفي سن الخامسة، بدأت أرسم على دفاتري وكتبي، ما دفع أساتذتي إلى معاقبتي أكثر من مرة، فاضطر والدي إلى نقلي إلى مدرسة راهبات، ومن ثم إلى مدرسة أميركية. أذكر هذه المحطات في حياتي، لأنها كانت تطلق الحلم الذي كان يتملكني، ويقودني إلى بداية مشواري الطويل في الفن والإبداع.


• هل كان لأهلك دور في هذه البداية؟
- نعم، والدي كان من النوع الذي يؤكد ضرورة طلب العلم، ولو في الصين. لذا، سافر بنا إلى لبنان حيث درست الفن والخدمة الاجتماعية في الـ«جونيور كولدج» في بيروت. وبعدها، تركنا لبنان وأنا في السنة الرابعة لأكمل الدراسة في الأردن في «كلية الملكة عالية». وأذكر أنني هناك كنت أدرس صباحاً فن الرسم، وأعود ظهراً للكلية لدراسة الخدمة الاجتماعية، وأخصص المساء لدراسة الفنون.


فن الواقع


• من المعروف أن الفنان التشكيلي يأخذ من طبيعة الواقع ليصوغه صياغة جديدة، أي يشكله تشكيلاً جديداً. من أي طبيعة وأي واقع غرفت وداد الأورفه لي؟
- لقد أخذت من طبيعة وواقع العراق، ومن كل شيء موجود في هذا البلد الحبيب، من سمائه وغيومه وأشجار النخيل فيه، ومن جوامعه وكنائسه. أنا بطبعي توّاقة إلى التفاصيل الدقيقة التي أراها حيثما أذهب، لذلك كنت أنهل من البلدان التي أزورها وأستمد أفكاري من كل ما أراه فيها، في الزخرفة وألوان الأقمشة والمصوغات. وأكثر من ذلك، كنت أستوحي في أحيان كثيرة من الميكروبات التي كانت تظهر بمجهر طبي في المجلات المختلفة.


فن الفنتازيا


• هل يصعب على الفنان أن يؤسس لنفسه أسلوباً خاصاً به؟
- ليس سهلاً أن يؤسس الفنان أسلوبه الخاص. ولينجح في ذلك، عليه، إضافة إلى تمتعه بالموهبة في الدرجة الأولى، أن يكون مثقفاً ومتسلحاً بالإصرار والتشجيع ليصل إلى الإبداع ويستمر.


• قبل التأسيس لأسلوبك الخاص بدأت الرسم الواقعي. كيف كان الانتقال بين الفنين؟
- هذا صحيح، لقد بدأت بالرسم الواقعي إلى أن زرت الأندلس في عام 1973. لقد جُلت كثيراً في بلدان العالم. فزوجي كان دبلوماسياً، وكان عليّ أن أرافقه في رحلاته، فزرت باريس ولندن وعواصم كثيرة، لكن الأندلس هزّتني كثيراً، وقصر الحمراء فيها، فتح عينيّ على أفكار رائعة، لاسيما حين رأيت ساقية الماء التي تنساب على وتيرة واحدة، كما تركها العرب. كنت سعيدة برؤية ما تركنا من حضارة هناك، وفرِحة باهتمام الغرب بتراثنا وإفساح المجال للملايين للتمتع بمشاهدتها. من هنا، كانت نقطة التحول في مسيرتي الفنية. فقد حرّكت الحضارة الأندلسية، بعظمة زخرفتها وإبداعها رغبتي في التحول إلى عالم تعبيري، صبغ أعمالي اللاحقة بأسلوب ابتهاجي، تمثّل في أخذ موقعي في فن الفنتازيا.


• من لوحاتك الواقعية إلى الفنتازيا، هل هناك مساحة لهويتك العربية؟
- معظم الفنانين يبدأون بالرسم الواقعي وينتقلون إلى التجريدي، إنما ألوان التجريد لا تعطي هوية للرسام، كونه عربياً أم غربياً. قد تكون الفنانة مديحة قمر هي أول من استخدمت الحرف العربي في رسومها التجريدية، لتعطي الطابع الشرقي العربي، وبعدها، سار على خطاها كثيرون وكانت المدرسة التعبيرية. يختلف فني في التأسيس لأسلوبي في الفنتازيا. فبعد الأندلس، رأيت نفسي في محيطي، بغداد الرشيد، تخّيلتها وترجمتها في لوحاتي. هذه اللوحات كانت بديلاً للحلم الذي ضج في عقلي، وبالتالي كنت أرسم حقيقة الواقع غير الموجود.


• نرى أن اللونين الأخضر والأزرق يغلبان على معظم لوحاتك، كما أن العالم مقلوب رأساً على عقب، لماذا؟
- أحب هذين اللونين لأن الواقع يتشكّل منهما. الأخضر يختصر الحياة المزهوة بخضرتها في الأرض الطيبة، والأزرق يشير إلى السماء، حيث الهدوء واللانهاية. أما العالم المقلوب، فذلك لأنني أردت أن أشكل صدمة للمشاهد، وألفت انتباهه إلى أن العالم بات بالفعل مقلوباً رأساً على عقب، أو هكذا أراه.


• إضافة إلى حلم ترجمة الواقع بأسلوب فانتازي، اكتشفنا أن لديك أسلوباً في رسم لوحات ثنائية وثلاثية ورباعية، لماذا؟
- صحيح. أنا أرسم لوحتين أو ثلاثاً أو أربعاً مكملة لبعضها. هذا لا يعني أن اللوحة الواحدة لا تكون مكتملة المعنى، ولكني في بعض الأحيان أرى ضرورة في إشباع فكرة ملحة عندي، لإكمال مشهد أراه بعيني فنانة.


• ما هي اللوحة الأغلى على قلبك؟
- كل لوحاتي عزيزة على قلبي. لكني حلمت بتجسيد بغداد المدوّرة، كما وردت في التاريخ، وبالفعل رسمتها في لوحات رباعية بعد عام 2000 وأنا فخورة جداً بها، خصوصاً أنها تجسد حلمي لبغداد أيضاً.


• هل تتحدثين إلى لوحاتك، أم هي التي تتحدث إليك؟
- أنا أتحدث إليها وهي تشاركني الحديث. أحياناً تخبرني عن ذكريات بعيدة، وتقرّبني من السماء والبحر والأرض. أجد لديها الكثير لتقوله لي، وأنا أفهمها جيداً.


حلم الموسيقى


• اليوم وفي عمر 82 نراك تطرحين ألبومك الموسيقي الأول في السوق بالتعاون مع شركة «EMI» البريطانية. ما هي الحكاية؟

- عندما كنت أتعب من الرسم، كنت أعزف. وفي عمر 13 عاماً، ألفت ألحاناً موسيقية بقيت في بالي ومنها معزوفة «جنون الفرح»، ومعزوفة أخرى بعنوان «ألم» طرحتهما في ألبومي «أنغام عربية»، إلى جانب 8 مقطوعات موسيقية أخرى. وهكذا، فإن الإبداع الموسيقي كان موجوداً في كل حياتي، لكني أردت أن أنتظر الفرصة المناسبة، واحتجت إلى الدعم والوقت. فأنا في الحقيقة ترعرعت في بيت أحبَّ الفن على أنواعه، وتلقيت الدعم والتشجيع لصقل موهبتي الفطرية وميولي نحو الموسيقى، فدرست في سن السادسة من عمري العزف على البيانو، كما درست العزف على العود والأكورديون بمساعدة أساتذة مشهورين أمثال: بهجت دادا وألدو كاني وصلاح القاضي وعلي الإمام وغيرهم. واليوم، حين رأيت أن يدي بدأت تخونني في رسم أحلامي على اللوحات بسبب ظروفي الصحية، وجدت في الموسيقى التي لم تفارقني لحظة، حلماً يتجدد في الإبداع، فاتصلت بشركة «emi» البريطانية للإنتاج والتوزيع، ليصدروا لي الألبوم الأول في فبراير الماضي.


• هل كان سهلاً عليك إقناع الشركة بأن سيدة في عمر الثمانين ألفت مجموعة ألحان، وتريد طرحها في ألبوم؟
- لقد طلبوا مني إرسال نسخة إليهم للاستماع لها، وأعتقد أن ما استمعوا له منعهم من التردد. وسمعت أنها سابقة في تاريخ الشركة، أن تصدر الألبوم الأول لامرأة فنانة في هذا العمر.


• من ساعدك على اتخاذ المبادرة تجاه الشركة المنتجة، ومن وزّع الألحان؟
- لقد استعنت بصديق يعيش في بريطانيا بعدما تحرّيت عن هذه الشركة، وطلبت منه أن يتصل بهم ويخبرهم عني، فطلبوا مني الاتصال بمكتبهم في الإمارات. أما في مسألة التوزيع، فقد استشرت الفنان إلهام المدفعي، ونصحني بالاستعانة بالموزع الموسيقي المعروف خاتشيك آدم الذي نفذ العمل، بعد أن اشترطتُ عليه عدم اللعب أو التدخل في ألحاني.


• كيف هي أصداء هذا العمل من خلال مراقبتك؟
- ممتازة, وأتوقع المزيد من النجاح لهذا العمل في المستقبل.


عتمة الحرب


• تقولين إن الحرب كان لها تأثير كبير في تحريك ميولك إلى الموسيقى؟
- نعم، فقد كنت أيام الحرب وبسبب انقطاع الكهرباء، أعجز عن الرسم فألجأ إلى عودي للعزف وتأليف الألحان، وكان زوجي حميد العزاوي، رحمه الله، أفضل مستمع وأهم ناقد لموسيقاي، وأذكر أنه كان يردد على مسمعي، كلما بدأت في العزف مساء، أنني الوحيدة في العراق التي تستفيد من العتمة.


• ما هو الدور الذي لعبه زوجك في مسيرتك الفنية، لكي تذكريه عند أية فرصة ممكنة؟
- لولا زوجي وحبه ومساندته لي، لم أكن أنا وداد الأورفه لي. لقد خلقه الله وكسر القالب. كان كل شيء في حياتي، المشجع والجمهور والناقد، يفرح لفرحي ويحزن لحزني. أتذكر أنه حين كان يصفق لي على عمل ما، كنت أشعر بأن جمهور العالم كله، يصفّق لي.


• كم يحتاج الفنان إلى دعم أقرب المقربين إليه؟
- العائلة هي واقع الفنان. وأنا لم أقصّر يوماً تجاه زوجي وأولادي، فبادلوني الاهتمام نفسه. علماً بأنني لطالما سهرت الليالي أترقّب شروق الشمس، لأنهي لوحة من لوحاتي ذات الأرضية الذهبية والتي كانت تأخذني من الواقع لأسابيع، بمعدل 10 ساعات يومياً، لأنفذ نقطها الدقيقة بريشتي. هذا كله لم يمنعني يوماً من ممارسة دوري كأم أو كزوجة، كما لم يمنعني من ممارسة حياتي الاجتماعية بطبيعية مع الأصدقاء والأقارب.


• هل تحضّرين لألبومات موسيقية جديدة أخرى؟
- بالتأكيد. لدي الكثير بعد، وأنوي العمل على تنفيذه. الموسيقى هي حياتي وفرحي لأنها تترجم أحاسيسي ومشاعري بتجرّد خالص، ووعدت نفسي بأن أرسم بالموسيقى الجميلة ما لم أعد استطيع رسمه بريشتي.


الشعر مستقبلاً


• بعد الرسم والموسيقى، هل تفكر وداد الأورفه لي في إبداع ثالث؟
- منذ صغري أيضاً، أقرأ الشعر وأكتب الخواطر. لقد كتبت بعض الأشعار التي أتمنى أن يغنيها أحد في يوم من الأيام. وأنا بصدد تطويرها اليوم، وقد أطرحها في ألبوم بأسلوب الإلقاء بصوتي، ترافقني الموسيقى المعدّة لها.


• لماذا لا تتصلين بابن بلدك الكبير كاظم الساهر ليغنيها؟
- يا ليت. ولكني أعرف عن كاظم أنه يلحن لنفسه، ولا يقبل بألحان الآخرين.


• في النهاية، كيف تختزلين مشوارك في الرسم والموسيقى؟
- كل لوحة هي تعبير موسيقي، وكل موسيقى ألفتها هي تعبير عن لوحة لم أرسمها. لا أستطيع أن أرسم بلا موسيقى، ففي الفنين أرى الحياة والحب. والفنان الحقيقي هو الذي يصدق في فنه ومع نفسه.