تردّد اسم سعاد حسني بقوة بعد نجاح الثورة المصرية. الكلّ يريد أن يفتح ملفّ المخابرات المصرية، ويشير بأصابع الاتهام إلى تلك الجريمة المدبّرة التي استهدفت سعاد قبل نحو 10 سنوات لأنّ لديها من الأسرار ما يتيح لها أن تفضح هذا الجهاز الحسّاس. ولهذا دبِّرت الجريمة في لندن وألقوا بها من الشرفة!


لم تكن هذه المرة الأولى التي نسمع فيها هذا الاتهام، لكنّها المرة الأولى التي يعلو فيها صوت يريد إماطة اللثام عن الكثير من الحقائق المسكوت عنها. كان الشاعر أحمد فؤاد نجم واحداً من تلك الأصوات التي جهرت بهذا الاتهام منذ وقوع تلك الجريمة. لم يكتف بهذا القدر، بل ذهب إلى تحديد أسماء بعينها أبلغت الأجهزة عن معلومات لدى سعاد تستعد لنشرها عن طريق إذاعة BBC اللندنية. والحكاية أنّ رئيس قطاع الأخبار الحالي في التلفزيون المصري المذيع عبد اللطيف المناوي اتفق مع سعاد في تلك السنوات عندما كان يعمل في إذاعة BBC اللندنية أن تسجّل جانباً من حياتها. وبعدما حصل على التسجيل الذي يفضح جهاز المخابرات، سارع إلى الاتصال بوزير الإعلام الأسبق صفوت الشريف الذي كان أحد رجال المخابرات خلال الستينيات. وبناء على ذلك، كافأه صفوت وأعاده إلى مصر ومنحه برنامجاً ثم منصباً مرموقاً في قطاع الأخبار في مصر. وبالطبع، كانت سعاد في نهاية التسعينات تعالج في لندن ولا تملك أموالاً للإنفاق على نفسها، خصوصاً أنّ الدولة المصرية في عهد رئيس الوزراء الأسبق عاطف عبيد كانت قد أوقفت صرف نفقات علاجها. وتردد وقتها أنّ سبب إيقاف علاج سعاد هي سوزان مبارك التي لا تكنّ أي تقدير لسعاد حسني. ولهذا، أوحت لرئيس الوزراء بإصدار القرار. أياً كان السبب، فإنّ المعلومة المؤكدة أّن سعاد كانت بحاجة إلى أموال. وكانت بالفعل قد سجّلت عدداً من رباعيات الشاعر صلاح جاهين بصوتها لحساب محطة BBC. وفي تلك السنوات، لم تكن "السندريلا" قادرة على مواجهة الكاميرا بعدما زاد وزنها ربما إلى الضعف. كما عانت من مشكلات في العصب السابع أدت إلى إصابتها بشلل مؤقت في الجانب الأيسر من وجهها!


هذه الأشعار بالفعل بُثّت عبر الإذاعة اللندنية، وبقيت فقط حكاية المذكرات التي سجّلتها سعاد، إذ لم تذع حتى الآن وظل مصيرها مجهولاً. بل إنّه ليس مؤكداً ما إذا كانت سعاد قد سجّلت مثل تلك المذكرات التي قالوا أيضاً إنّها كتبتها بخط يدها، ولم يعثر لها على أي أثر حتى الآن.


انتحرت سعاد أم قتلت؟! سؤال تردد ولا يزال حتى الآن. تعدّدت التفسيرات حول أسباب القتل، لكن ظل هناك اتهام يزداد ترديده، خصوصاً بعد "ثورة 25 يناير" يؤكد أنّ أصابع المخابرات المصرية ليست بعيدة عن جريمة اغتيال سعاد. ورغم أنّ هذا التفسير يرضي الخيال الجمعي كثيراً، إلا أنّني لا أجد في هذا التحليل ما يبرّره على أرض الواقع. أنا أعلم بالطبع أنّ سعاد حسني تعرضت فعلاً لضغط قوي في الستينيات من جهاز المخابرات، وكان وزير الإعلام الأسبق صفوت الشري باعتباره ضابط مخابرات، يحمل اسماً حركياً هو "موافي" وبرتبة مقدم. وكان الغرض هو تسجيل سينمائي لسعاد لأنه في تلك السنوات ـ أي في نهاية الستينيات ـ لم يكن قد اخترع الفيديو بعد. بالفعل، تمت تسجيلات خاصة لسعاد حسني لا داعي الآن للكشف عن ظروف تصويرها. لقد تردّد أنّ هذه التسجيلات كانت تهدف إلى الضغط على سعاد حتى تتحول إلى عميلة للمخابرات تشي بزملائها للأجهزة الحساسة حتى تستطيع الدولة السيطرة على الوسط الفني. سعاد بالتأكيد لم تواصل العمل مع هذا الجهاز، ورفضت أن تكتب أو تملي أي تقارير تتناول زملاءها، إلا أنّ منطق الأمور في الوقت عينه يؤكّد بأنه ليس من صالح سعاد أن تروي شيئاً عن هذه الحادثة. أكثر من ذلك، إنّ مَن يعرف سعاد يتأكد بأنّها لا يمكن أن تتناول أي تفاصيل قد تؤدي إلى إثارة الجدل حولها. لو عدت إلى الأرشيف المرئي والمسموع والمقروء لسعاد، لن تجد إلا القليل. ولو استعدت بعضها، سوف تكتشف أنّ سعاد لا يمكن أن تجرح أحداً أو تروي واقعة تمس أحداً، فكيف تفتح النيران من لندن على جهاز مخابرات في عز قوته؟ وكانت سعاد ستضطر وقتها لاستعادة واقعة ستنال منها حتماً مثلما تنال من هذا الجهاز الحساس!


نعم، "ثورة 25 يناير" أسهمت في فتح شهية المواطن العربي لإماطة اللثام عن العديد من القضايا الغامضة. لكني أرى أنّ قضية سعاد حسني والمخابرات أحد الملفات الشائكة التي تكتنف من الوهم أكثر مما تحمل من الحقيقة. وظنّي أنّ سعاد أرادت وهي واقعة تحت ضغط الاكتئاب، أن تتخلّص من حياتها، فألقت بنفسها من الشرفة في لندن. لكنّ عشاق سعاد أرادوا أن يعثروا على نهاية أخرى!