حوار: ثناء عبدالعظيم
في هذا الحوار، تلتقي «زهرة الخليج» السيدة الأردنية علمية الأغواني، التي تتحدث عن تجربتها
مع أولادها المصابين بإعاقات سمعية، وكيف تمكّنت، بفضل صبرها وإرادتها، من تحدي إعاقتهم وقيادتهم إلى النجاح والتفوق.
لم تفارق الابتسامة وجهها. فبقدر الابتلاء، كان رضاها بقسمة رب العالمين. هي زوجة وأم لسبعة أبناء من بينهم أربعة مصابون بإعاقات سمعية. وعلى الرغم من ذلك، فإن اثنين منهم يحملون شهادات جامعية، في حين أن الآخرين أكملا تعليمهما الثانوي. مشوار من العناء والشقاء استمر على مدى 34 عاماً عاشته السيدة الأردنية علمية الأغواني مع أربعة من أبنائها. فما هي قصتها؟ وكيف اكتشفت إعاقاتهم؟ وكيف تعاملت معها؟ هذه الأسئلة وغيرها تجيب عنها الوالدة التي تحوّلت إلى نموذج ومثال للمرأة الجبّارة، في هذا الحوار:

زواج الأقارب
• هل يمكن أن تعودي بذاكرتك إلى الوراء لتروي لنا بداية الحكاية؟
ـ تزوجت بابن عمتي الفلسطيني الذي كان يعمل في أحد البنوك في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان عمري آنذاك 18 عاماً. وقد عشت مع زوجي أجمل أيام حياتي حتى رزقنا الله بابنتي خلود عام 1978. لم يقلقني وقتها تأخرها في النطق، باعتبارها طفلة وحيدة ولا تتفاعل مع غيرها من الأطفال. وبعد أقل من عامين، رزقت بأماني. وبعدها بعام رزقت بابني خالد. لم أسمع أطفالي يتكلمون مثل غيرهم من الأطفال، بل كانوا يهمهمون فقط بكلمات غير مفهومة. وعندما ساورني القلق، بدأت مع والدهم رحلة البحث عند الأطباء لتبيان سبب تأخرهم في النطق، ولم نخرج من عند أي منهم بجواب محدد إلا بعد أن حملت بابنتي الرابعة غادة، التي تزامن حملي بها مع تأكيد الأطباء في كل من يوغسلافيا والأردن ومصر أن أطفالي الثلاثة مصابون بإعاقات سمعية شديدة، ناجمة عن مرض وراثي بسبب زواج الأقارب. وفي غضون أشهر، ولدت غادة، ليرتفع العدد إلى أربعة أطفال يعانون هذا الخلل الوراثي.
صدمة عنيفة


• كيف كان وقع الخبر عليك عندما علمت بطبيعة المرض الذي يعانيه أطفالك؟
ـ كانت صدمة عنيفة هزت كياني أنا وزوجي، لم أعرف كيف أتصرف عندما أيقنت أني أصبحت أماً لأربعة أطفال يعانون فقدان القدرة على السمع. في بداية الأمر كانت مشاعري تتفاوت بين الحزن والألم والإحساس بالضعف وقلة الحيلة في مواجهة هذه المحنة. لكن هذه المشاعر لم تستحوذ عليّ لوقت طويل، إذ إني تنبهت سريعاً إلى أن هذا الوضع الاستثنائي، الذي يعيشه أطفالي، يتطلب مني مجهوداً مضاعفاً لإعدادهم وتأهيلهم ليصبحوا قادرين على الاعتماد على أنفسهم في مواجهة الحياة. وعلى الرغم من أن الأمر بدا لي حينئذ أكبر من طاقتي وقدرتي على الاحتمال، إلا أن الإيمان، الذي ملأ قلبي، كان بمثابة طوق النجاة الذي أنقذني من أي ذرة تبرم أو اعتراض، وجعلني أصبر وأرضى بقضاء الله تعالى وقدره.
الصبر لا يكفي


• من الواضح أنك اتخذت من تعليم أبنائك التحدي الأكبر في حياتك، فكيف بدأت المشوار؟
ـ في بداية الأمر، كان كل اهتمامنا موجهاً نحو البحث عن طبيب ماهر أو علاج يجدي نفعاً في حالة أطفالي. وقد طالت رحلة البحث تلك، وقصدنا خلالها جهات عدة من بينها «معهد الوراثة» في موسكو، حيث خضع أطفالي لتحاليل عديدة، وقاموا بإعطائهم أدوية لتقوية النخاع الشوكي والعصب السمعي، وكانت آخر محطة في السعي وراء العلاج هي مصر في عام 1988. بعدها، اقتنعت تماماً بعدم جدوى البحث عن علاج، بل بضرورة البحث عن سبل للتأقلم مع الحالة.
وقد أدركت بسرعة أن الصبر وحده ليس كافياً في مثل هذه الحالات، وأنه لا بد لي من خطة عمل أسير بموجبها، فتعلمت لغة الإشارة حتى أتمكن من تعليمها لهم والتواصل معهم. وفي وقت كانت كل الاحتمالات مطروحة وكل المفاجآت واردة، كنت أشعر بالقلق على مدى قدرة أطفالي على الاستيعاب والتعلم. وبينما أنا داخل هذا الطوفان من القلق، جاءت كلمات الطبيب المصري صلاح سليمان، المتخصص في الأنف والأذن والحنجرة، الذي كان يتولى متابعة حالة الأطفال، عندما لفت انتباهي إلى الذكاء الحاد والإمكانات العقلية العالية التي تتمتع بها ابنتي غادة. وفي الحقيقة، فإن كلماته تلك منحتني دفعة هائلة من التفاؤل والأمل في قدرة أبنائي على التعلم والتغلب على إعاقاتهم.


التفوق العلمي
• إلى أي حد كان الطبيب محقاً في توقعاته بشأن غادة؟

ـ التحقت غادة بـ«مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية»، ففي ذلك الوقت، لم تكن هناك قوانين تسمح بدمج الأطفال المعوقين في مدارس التعليم العام. ومنذ دخولها المدرسة، أظهرت غادة تفوقاً في دراستها، وقد رشحتها الشيخة جميلة القاسمي، رئيسة «مدينة الخدمات الإنسانية» في الشارقة، للعمل في أحد البنوك بعد حصولها على «جائزة التفوق العلمي». وأثناء عملها، واصلت غادة دراستها. وعندما كانت في الثانوية العامة، سمح لها وزير التربية والتعليم السابق الدكتور حنيف حسن بأداء الامتحان أمام لجنة خاصة، وأرسلت معها الشيخة جميلة القاسمي معلمة تتواصل معها بلغة الإشارة. وهكذا، اجتازت غادة جميع الامتحانات بنجاح، ولكنها رسبت في مادة الجيولوجيا، وقد وقفت وظيفتها بالبنك حائلاً دون تمكنها من إعادة الامتحان في تلك المادة، وكان عليها أن تختار بين العمل أو مواصلة الدراسة، فكان أن اختارت العمل. بعدها، حصلت غادة على «جائزة الموظف المتميز»، وهي تتعامل بالإشارة أو الكتابة بكل سهولة بإدارة التطوير والتنظيم. كما حصلت على «جائزة الشارقة للمعوقين المبدعين» و«جائزة مصممي الأزياء» من دبي، وحصلت كذلك على «جائزة الشارقة للتميز العلمي». وفازت لوحاتها عن معالم دبي القديمة والحديثة في «مهرجان دبي». وقد أشادت لجنة التحكيم برسوماتها التي اتسمت بدقة عالية في رسم الأبعاد.


تجربة صعبة
• ماذا عن تجربة أولادك الآخرين خلود وخالد وأماني؟

ـ لقد مّر كل من خلود وخالد وأماني بعقبات كثيرة، لأن المدارس الحكومية لم تكن تقبل التحاق الأطفال ذوي الإعاقة في صفوفها. وقد بذلت جهداً كبيراً لإقناع إدارات المدارس بقدرة أطفالي على التعلم. وفي المقابل كنت ألتقي يومياً بالمعلمات وأعرف منهن المواد التي درسها الأطفال طوال يومهم الدراسي، لأتابع معهم حل الواجبات المدرسية في البيت. وبينما فضلت خلود أن تدرس المواد العلمية، اختارت أماني الدراسات الأدبية، لذا كان علىّ دراسة مواد القسمين معاً.


مخزون لغوي
• من المؤكد أن المشوار الدراسي كان حافلاً بالصعاب. ولكن، ما هو الموقف الذي مر عليك وتعتبرينه الأكثر صعوبة؟
ـ امتحان اللغة العربية في مختلف المراحل الدراسية كان دائماً من أصعب الامتحانات التي اجتازها الأولاد، خصوصاً كتابة موضوعات التعبير، لأنها تحتاج إلى مخزون لغوي يفتقرون إليه بسبب وضعهم الصحي. وأذكر أني كنت أكتب لهم ليلة الامتحان الموضوعات التي تخطر في بالي في مختلف المجالات السياسية والوطنية والاجتماعية والثقافية. وفي إحدى المرات، كنا نشعر بقلق بالغ ليلة الامتحان، فقمنا جميعاً بأداء صلاة الاستخارة وطلبنا من الله أن يمنحنا إشارة على ما سيأتي. وفي صباح اليوم التالي، استيقظنا ونحن مجمعين قبيل الامتحان بنحو ساعتين على أن موضوع التعبير الذي سيأتي في الامتحان سيكون عن المربية الأجنبية. فكتبت الموضوع بأسلوبين مختلفين وحفظه الأولاد عن ظهر قلب، وكان هو الموضوع المطلوب في الامتحان.


أول معاقة جامعية
• ماذا عن مشوار التعليم الجامعي للأولاد؟

ـ التحقت أماني بـ«جامعة الشارقة» عام 1999 بعد قيامي باستخراج شهادة من وزارة التربية تفيد بأن إعاقتها لم تقف حائلاً بينها وبين إكمال دراستها. وهي أول معاقة سمعياً تلتحق بالجامعة، بعد حصولها على منحة دراسية من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم إمارة الشارقة، لاستكمال دراستها. وشهد أساتذتها في ما بعد بأنها تستحق الدعم، لأنها جادة في التعليم ولديها طموح كبير حتى لو حرمتها الإعاقة من نعمة السمع. ومما أذكره أيضاً، أن متطلبات الالتحاق بالجامعة، كانت تتضمن اجتياز امتحان في اللغة الإنجليزية، وقد اجتازت أماني هذا الامتحان بتفوق أدهش أستاذتها التي طلبت منها أداء الامتحان مرة ثانية. وبعد إتمام سنوات الدراسة الجامعية، حصلت أماني على شهادة البكالوريوس في إدارة الأعمال، ورفع لها الأساتذة قبعاتهم يوم التخرج تحية لها وتقديراً لتحملها الظروف الصعبة كافة التي واجهتها. وقد تزامن تخرجها مع حصولها على المرتبة الأولى في مسابقة القرآن الكريم عن طريق لجنة في الكتابة التحريرية. أما خلود، وعمرها 32 عاماً حالياً، فقد أكملت تعليمها الثانوي والتحقت بالمعهد العالي للسكرتارية، والتحقت بالعمل في «مركز الثقة للمعوقين»، وقد حصلت مؤخراً على «جائزة الموظفة المثالية» لإخلاصها في العمل. في حين أن خالد، الذي بلغ الـ25 من عمره، أكمل دراسته الثانوية وفضل بعدها الاتجاه نحو ممارسة هوايته الفنية في كتابة الخط العربي.


• كيف يتعامل أبناؤك مع العالم الخارجي وزملائهم في العمل؟
ـ لقد أعانني الله تعالى على أن أزرع داخل أبنائي قناعة بأن الله أفقدهم نعمتي السمع والنطق لحكمة جليلة لا يعلمها إلا هو. وما عدا ذلك، فهم يعلمون جيداً أنهم لا يقلون شيئاً عن أقرانهم. لذا، فإنهم يحاولون قدر الإمكان أن يتعاملوا مع المجتمع الخارجي بشكل طبيعي.


زوج محفز
• ما الدور الذي قام به زوجك في هذه الرحلة الحافلة بالكفاح والتحدي؟

ـ كان زوجي إلى جواري دائماً، يهيئ لي الظروف، ويساعدني ويحفزني على مواصلة مشوار الكفاح، حتى تمكنّا من تربية أبناء ناجحين رغم إعاقتهم.


• لديك أبناء أسوياء نجوا من المرض الوراثي، كيف يتعاملون مع إخوانهم؟
ـ أنجبت بنتين وولداً لا يعانون أي مشكلات صحية، هم: علا في السنة النهائية في كلية هندسة الاتصالات، وحمد الذي يدرس الصيدلة، وأخيراً نور وهي في الثانوية العامة. وجميعهم تعلموا لغة الإشارة كي يتمكنوا من التواصل مع إخوتهم، وهم يساعدونهم في التواصل مع العالم الخارجي.


زواج الأقارب
• هل تشعرين بالذنب تجاه أبنائك لأنك قبلت الزواج بأحد أقاربك؟ وهل توافقين على زواج بناتك بالأقارب؟
ـ ربما لو تزوجت برجل غريب لكنت أنجبت أيضاً أطفالاً معاقين. زواج الأقارب فيه أمان واطمئنان، لكن بعد الفحص الطبي والتأكد من عدم وجود أمراض وراثية منقولة في العائلة. لقد عشت مع زوجي حياة ناجحة مليئة بالحب والإخلاص من دون خلاف. كما أن إعاقات أبنائنا عمقت أواصر المحبة وجعلت بيننا مودة ورحمة، ورضينا بما قسمه لنا رب العالمين. وفي الوقت نفسه، علّمتنا التجربة ألا نتجاهل مشورة الطب والشرع.


الأم المثالية
• هل قدّر المجتمع ثمرة كفاحك؟
ـ نعم، بالتأكيد، فقد حصلت على «جائزة الأم المثالية» من «رواق عوشة بنت حسين الثقافي»، ومن «مؤتمر المرأة العالمي» عندما قدمت تجربتي أمام الشيخة منال بنت محمد بن راشد آل مكتوم. كما رشحتني مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية لـ«جـائزة الأم المثالية» عند حصول ابنتي غادة على «جائزة التفوق العلمي». وفي كل مرة كنت أشعر بأن المجتمع قدر كفاحي وثمرة جهدي عندما نجحت في تربية أبناء ناجحين، على الرغم من إعاقتهم. وقد جددت الأمل في قلب كل أم لديها طفل معوق في إمكانية تجاوزه ظروف إعاقته.
نعمة
• ماذا تقولين لكل أم لديها أبناء معاقون؟

ـ أقول لها لا تتعاملي مع الأمر على أنه ابتلاء، بل نعمة من رب العالمين. فهذا الطفل، أو هؤلاء الأطفال، هم مدخلك إلى الجنة، وملاذك من النار، وهم اختبار لقدرتك على الصبر والإيمان. فإذا كانت الجنة تحت أقدام الأمهات، فما بالك بأم لديها أبناء معاقون؟