مجلة زهرة الخليج 

القاهرة - سماح عبد السلام 


في هذا اللقاء الشيّق، تتحدث الشاعرة والمترجمة المصرية فاطمة ناعوت عن تجربتها مع عالم الكتابة، مستعرضة محطات عدة من مسيرتها وكيفية دخولها عالمي الترجمة والشعر.


تجلت مفردات عوالمها في تجربتها الشعرية، حيث قدمت العديد من الدواوين الشعرية والكتابات النقدية. وتعد صاحبة أسلوب خاص في الكتابة والترجمة، وهي تعيش بقلب طفلة تحُلم بالجمال وتحلق فيه، يدهشها ما لا يدهش الآخرين. تنشد فاطمة ناعوت الجمال فترى أنه «فرض عين وليس فرض كفاية». وهي تؤكد في هذا الحوار أن «مصفاة التاريخ تحمي الأدب وتقضي على المدعين»، مشددة على أن «الكتابة نوع من أنواع المقاومة والرفض النبيل».


• لمن تكتب فاطمة ناعوت، ولماذا تكتب؟
- مشروع الكتابة لديّ بصفة عامة ينشد الجمال، سواء أكان من خلال المقال أم العمود الصحافي، وحتى الترجمة التي أقدمها لبعض الكتب. كذلك، عندما أهاجم السلطة، فإنني أنشد الجمال في المقام الأول، فالكتابة نوع من أنواع المقاومة والرفض النبيل، حيث أرى أن مصر من أجمل وأرقى بلاد العالم، فهي البلد الأول الذي خطا الخطوة الأولى في التاريخ. أكتب للجمال الغائب وأتمنى أن أراه قبل أن أرحل.


• كيف ترصدين واقع المشهد الثقافي الحالي؟
- الإبداع بخير. ولكن الحركة النقدية لا تواكبه، وكأنما الإبداع فرس حرة، والنقد عربة قديمة متهالكة لا تستطيع أن تواكب الوثبات السريعة التي يقدمها الإبداع بمختلف فروعه. الثقافة في خطر، كما لوّح بذلك طه حسين قبل عقود. وهو ما يؤكده حالياً جابر عصفور، الذي يطالب بإنشاء جبهة وطنية تعيد للثقافة اعتبارها. وأنا أتفق معه تماماً، حيث أجد تردياً كبيراً في الحالة الأدبية بعد أن انتشر الإرهاب الفكري. فلم تعد محاججة الفكر بالفكر كما قال ابن رشد في الماضي أو في الأمس القريب. إنما الإبداع كإبداع فأظنه بخير.


• ما بين السلطة والمثقف ثمة علاقة متوترة. كيف ترين ذلك؟
- هي علاقة ثلاثية. وقد قال غولبز، وزير الإعلام في ألمانيا النازية يوماً: «كلما رأيت مثقفاً تحسست مسدسي». لأنه كان يعلم أن المثقف يرفض «كتالوغ» السلطان، ذلك الـ«كتالوغ» الذي يتصف بالقمع. أما أوكتافيوباث، فيقول: «انتقد الحكومة حتى لو أحسَنَت، لأنك تطمع في المزيد»، حيث يرى أن المثقف الحقيقي لابد أن ينتقد السلطة. وأنا لست معه في هذا الرأي، لأننا ننتقد السيئ ونشيد بالجميل حتى لا تفتر عزيمة من صنعه. وهكذا، فإن العلاقة بين السلطة والمثقف علاقة اشتباك، وهي «كارت» في يد الحاكم يستطيع أن يصنع به الكثير، فإذا ما انتعشت الحركة الدينية، ضربها بالثقافة، وإذا انتعشت الثقافة ضربها بالتيار الديني.


• كيف ترين ظاهرة تقسيم الأدب وتصنيفه كأدب نسوي وآخر ذكوري؟
- هذا كلام عقيم، وإذا وافقنا على تقسيم الأدب إلى نسوي وذكوري، فلنقسم النحو والعمارة والموسيقى، وهذا عبث. فالعقل البشري لا نوع له. وقد اكتشف الفلاسفة أن المرأة قادرة على التقاط الدقائق الرهيفة التي قد تغيب عن الرجل. من هنا، نجد أن آلية تعامل المرأة مع القلم سوف تختلف بطبيعة الحال عن الرجل. وأنا ضد فكرة النسوية. ولكني كمترجمة، أتخيل أعمالاً ترجمتها امرأة لهذه الأسباب، حيث أرى فيها رهفات والتقاطات دقيقة.


• انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة المدونات الثقافية. فما السبب في انتشار هذه الظاهرة في رأيك؟
- هي ظاهرة طيبة، ولكنها لن تخلق أدباً. من المهم أن يعبر كل إنسان عن نفسه ويخلق لها حيزاً يعبر فيه عن آرائه. ولكن الأمر تخطى فكرة البوح بالأفكار والمشاعر، إضافة إلى خلق مجتمع وإنشاء بيئة اجتماعية على الإنترنت. ذلك أن المدونين يحلمون بأن يكونوا كتاباً. فلابد أن يمر الشاب الذي يحلم بأن يكون كاتباً بممرات، مثلما ينشد القفز فوق الحواجز. وعادةً، قد يكون هذا عبر الصحف الأدبية، حيث يرسل إنتاجه مرات عدة وتُرفض أعماله. ولكن الديمقراطية المفرطة التي أتاحتها الإنترنت، جعلت الجميع يقعون في هذا الشرك. أستطيع أنا، كفاطمة ناعوت أن أختار لي مهنة أخرى وأضعها على الإنترنت. فقد أتسعت الدائرة، وأخذ الحُلم مداراً أوسع من الواقع. وأنا أؤيده، ولكني أتمنى ألا نقع في شرك، أو هواية خلق الحُلم.


التحول من العمارة إلى الشعر
• تركتِ العمارة واتجهت إلى الشعر، فكيف أستطاع الشعر أن يُحدث هذا التحول؟
- في الحقيقة إن الأمر معكوس، حيث إني كنت أكتب الشعر منذ صباي المبكر حين كنت طفلة صغيرة، حينما كان يقص والدي عليّ قصص الأنبياء، وقد لفت انتباهي أثناء وصوله إلى قصة المسيح عليه السلام. وما صعقني هو أن هذا الطفل الصغير يتكلم في المهد. وقد تمنيت أن أرى هذا الطفل، وأظن أن والدي فتح لي في هذه اللحظة كوة في عالم ما وراء الطبيعة، وهو الشعر. وقد ضربني «فيروس» الشعر في ذلك الوقت ودفعني إلى اختراق هذا العالم، وظل الحلم يراودني. وقد أصبحت شاعرة من دون كتابة، فقد كنت أحضِر بعض القصائد في مرحلة الثانوية لبعض الشعراء، وأقوم بتقليدها معتقدة أنني أكتب شعراً. علماً بأن درساً في العمارة أسهم في تحويلي من الشعر التفعيلي إلى قصيدة النثر.


قصيدة النثر
• كثيراً ما تتعرض قصيدة النثر لهجوم حاد. فكيف ترين هذا الهجوم؟
- لم أعد أعبأ أو أنتبه إلى هذا الشرك. وهذا فخ يوقعنا فيه الآخر. مثلما نترك الشعر ونتجه إلى العراك والمعركة وتفريغ الطاقات. كما أن معظم الشعراء الجدد انتبهوا لهذا الفخ، ولم نعد طرفاً في النزاع ، فليقولوا ما يقولون ونفعل نحن ما نفعل.


• لكن البعض يرى أن قصيدة النثر كانت البوابة التي تسللت من خلالها أصوات غير موهوبة؟
- على العكس تماماً، حيث إني أرى أن الشعر العمودي اضطرب أكثر لأن لديه ما يخدع الناس، والقصيدة الخليلية تستطيع أن تخدع الناس، ولو أن المتلقي غير مدرب على سماع الشعر، سيظن أنه شعر. قصيدة النثر نزعت من الشاعر أهم أسلحته وهو الوزن، وقالت له: هل تستطيع أن تحارب من دون سلاح؟ من هنا نجد صعوبتها. وبالفعل، دخل متسللون، سواء في العصر الحالي أم أيام البارودي وشوقي وحافظ إبراهيم، ولكن التاريخ أنصفهم واستخلص لنا شعراء حقيقيين، والشيء نفسه سيحدث حالياً وستصفي مصفاة التاريخ المدعين.


• تمارسين فنوناً مختلفة من الإبداع. فإين تجدين نفسك؟
- أكتب الشعر والمقال والعمود الصحافي، كما أترجم الرواية والقصة، إضافة إلى هواية الفن التشكيلي. ولكن لا شيء يشبه الشعر. فحينما أكتب قصيدة، تجعلني أنتشي. لكن الترجمة أيضاً ضرورية، فهي بيت استراحة المحارب ومرحلة الشحن، لأن الترجمة في الواقع ليست مجرد قراءة، إنما أعمق منها، فنحن لا ننظر إلى الكلمات، بل ننظر داخلها كي نحاول أن نقبض على اللحظة التي كتب فيها الروائي هذا النص. كثيرون من أصدقائي نصحوني بالابتعاد عن الترجمة والصحافة خشية أن تأخذني من الشعر. لكني لا أظن ذلك. علماً بأن الترجمة بالفعل تزهق الوقت، والصحافة قاتلة، حيث تستنزف الطاقة. ولكن يبقى الشعر هو التاج، والوسادة التي تضم أوجاعنا.


• تتصف الكتابات الجديدة في الفترة الأخيرة باختراق ثالوث الدين والجنس والسياسة، لماذا هذا الاختراق؟
- إذا كان الاختراق هدفاً، فإنه يعد جريمة، وتعمّد كسر الـ«تابو» هو شيء عجيب وركيك ضد الإبداع. لكن إذا كتبت نصاً وكان بطبيعته مخترقاً للـ«تابو» فأنا أؤيده. أما أن يتعمد بعض الكتاب فقراء الموهبة ذلك، معتبرين أن هذا الـ«تابو» حصان سوف يمتطونه كي يصلوا أسرع، فهؤلاء سوف ينالون أضواء خافتة، سرعان ما تنطفئ ولن تسفر عن شيء.


• قمت بترجمة العديد من الكتب. فكيف ترين حركة الترجمة الحالية واتهام البعض لها بأنها ركيكة؟
- الترجمة هي خيانة للنص، لأنها في بدايتها سرقة. لكن، هي خيانة لابد منها وعلى الإنسان أن يتعلم ويتقن لغات الأرض وهذا مستحيل. وهنا، لابد أن نسأل أنفسنا: ما الذي يجب على المترجم أن يفعله كي يكون لصاً شريفاً؟ وأنا أحاول أن أنظر إلى أسلوب الكاتب، وإذا ترجمت قصيدة، لابد أن تخسر في رحلتها من لسان إلى آخر جزءاً كبيراً من طاقتها. وعلى المترجم أن يكون شاعراً حتى لا يقتل النص الأصلي أو يحوله إلى بيان صحافي. وحتى يستطيع تعويض النقص في الطاقة المهدرة، على المترجم أن يخلق نصاً إبداعياً موازياً للنص الأصلي.


• هناك من يكتب وعينه على الترجمة. فكيف ترين هذه الكتابات؟
- كم من الجرائم تُرتكب باسم الإبداع. ثمة فرد هدفه كسر الـ«تابو» وأخر هدفه الترجمة والسفر. وهؤلاء الكتاب لن يبقيهم الزمن كثيراً. فمصفاة الزمن والتاريخ قاسية وحاسمة وعمياء. مصفاة التاريخ شديدة القذف وقد تبدو متراخية في بداية الأمر، ولكنها تلملم ولا ترحم أحداً.


• يرى البعض تشابهاً بينك وبين فرجينا وولف؟
- أتمنى أن أكون مثلها، وأسعد كثيراً بهذا التشبيه. كثيرون قالوا لي إنهم دخلوا عالم فرجينا وولف عن طريق ترجمتي لها. فمن يتقن الإنجليزية، يجد صعوبة في قراءتها، وقد أسهم في هذا مرضها العقلي، الذي ساعد على بناء نص مركب. هذا النص كان بالفعل عصياً على الترجمة. علماً بأني أشعر بأن التشابه الذي بيننا يجعلني أشعر بأني سأفقد عقلي يوماً ما مثلها. كما أنها حاولت الانتحار، وأنا أيضاً، فقد انتحرت عندما هاجمها المرض حتى لا تثقل على زوجها.


• متى نقول إن هذا الأديب صاحب بصمة خاصة؟
- حينما يكتب نصاً لا يقلد فيه أحداً ولا يستطيع أن يقلده أحد. قد تبدو معادلة صعبة، لأن الكاتب لا يستطيع أن يقول لنفسه: أُكتُب نصاً الآن. فالنص يأتي أو لا يأتي. وقد فعلها وليم شكسبير منذ سنوات عديدة ولم يتمكن أحد من تقليده. تلك هي البصمة، فكرة أن يكتب الأديب نصاً، جملة واحدة تخصه بمفرده.


• اتصفت كتابات المرأة في الفترة الأخيرة بالتمرد. فلماذا هذا التمرد؟
- تتمرد المرأة على المجتمع البطريركي. على رجل أساء تأويل النص في مصلحته طوال الوقت. تتمرد على المرأة ذاتها. وحينما تتم دعوتي إلى إلقاء محاضرة، لم أعد أتحدث عن المجتمع البطريركي وظلمه للمرأة، إنما أتحدث عن قمع المرأة لنفسها. فهي العدو الأول لذاتها. لأنها تقبل هذا القمع وتمارسه على نفسها وابنتها. وقد تسهم في إلغاء هويتها.


• من هم أهم الأدباء الذين تأثرت بهم في مشوارك الإبداعي؟
- آبائي كثر، يأتي على رأسهم جبران خليل جبران، وإبراهيم ناجي، وصلاح عبدالصبور. ومن الغرب أوسكار وايلد. كما صدمني وليم شكسبير. أما الأدب الذي صهرني وكوّن منظومتي الفكرية، فكان الأنطولوجيا الإغريقية. وقد كنت أقرأ الإلياذة والأوديسا بشغف، حيث كنت أسير في الشارع وأتخيل أن الأسطورة «هرر» سوف يهبط عليّ.


• من هي فاطمة ناعوت؟
- هي طفلة مازال يدهشها ما لا يدهش الآخرين. تُدهش من الجمال والقبح. فأنا أحلم بالجمال كطفلة تحلق فيه، كما يدهشني القبح لماذا يكون هناك قبح بينما يمكننا صُنع الجمال؟


• ما هي الفلسفة أو الحكمة التي تؤمنين بها؟
- أصنع الجمال ولا تحتفظ به. صناعة الجمال فرض عين وليس فرض كفاية، وكل إنسان في إمكانه صنع الجمال.