k

أصدرت الباحثة عزة شرارة بيضون كتاباً جديداً هذا العام، وبالطبع يمكننا أن نخمن عن ماذا تكتب الباحثة المنهمكة في قضايا المرأة في المجتمع العربي. حمل الكتاب عنوان "نساء يواجهن العنف"، وبه تضيف بيضون لسلسلة دراساتها التي كرستها واحدة من أهم الباحثات في هذا المجال الإشكالي في العالم العربي دراسةً جدليةً جديدة.
تستحق تجربة بيضون التوقف عند حياتها الشخصيّة لأكثر من سبب، فهي أستاذة علم النفس في الجامعة اللبنانية وفي الجامعة الأميركية اللبنانية وعضو مؤسّس في «تجمع الباحثات اللبنانيات»، و«لجنة التوثيق والبحوث» و«الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية». كما أنها مستشارة في شؤون «الجندر» أو النوع الاجتماعي، لدى منظمات محلية ودولية.
وهي كذلك نموذج للمرأة اللبنانية المثقفة التي عاشت أجواء الحرب الأهلية وسنواتها الدامية من دون أن تفكر في مغادرة بيروت هي وشريك حياتها الباحث والشاعر أحمد بيضون.


يثير الأعجاب في تجربة بيضون كيف أنّها قررت فجأة أن تهدي نفسها تلك الهدية وهي في عمر ال35، فقد اتخذت لحياتها سبيلاً مختلفاً وبدأت الدراسة من جديد في مجال كانت تحلم به، ألا وهو علم النفس بعد أن كانت قضت سنوات طويلة مدرسة للرياضيات. هكذا، ستلتحق الأم لبنتين في سنوات الحرب بالجامعة اللبنانية، وتعود طالبة باحثة وتستمر في هذا 17 عاماً قبل أن تحصل على الدكتوراه عن أطروحتها الميدانية عن «صحة النساء النفسيّة بين أهل العلم وأهل الدين» (1996).


والقصة بدأت هكذا، ولدت عزّة شرارة بيضون سنة 1944 في صيدا لأمّ وأبِ من عائلة أرستقراطية، من كان والدها شاعراً معروفاً ومن أهم أدباء جبل عامل (عبد اللطيف شرارة). لكن زواجهما لم يكتب له النجاح. بعد أربعة أعوام انفصل الزوجان، ثم غادرت الأم إلى صيدا حيث خاضت تجربة زواج آخر، مصطحبة عزّة. لم تترك تلك الطفولة أثراً سلبياً على روح عزّة، كانت صاحبة قوّة إيجابية منذ سن مبكرة، فامتلكت قدرةً على حبّ الحياة تجهل من أين استمدتها، جعلتها تشعر بأنّها طفلة سعيدة ومرغوبة جداً.
وفي المدرسة، كانت سيرة بيضون كما هو متوقع منها، متفوقة متميزة تحصل على أعلى الدرجات، هكذا حتى التحقت بالجامعة الأميركية لدراسة الرياضيات. وجاءت هذه الدراسة نتيجة منطقية لطالبة مثلها. وفي الجامعة وجدت بيضون نفسها مثل أبناء جيلها تبحث لنفسها عن موقف سياسي وتنخرط في أحداث الأمّة الجسيمة في الستينيات. فاندفعت عاطفياً إلى الفكر القومي والناصرية. ثم التحقت بحركة «فتح»، حيث كانت مهمّتها جمع التبرعات وإعطاء المحاضرات وسرعان ما انتقلت إلى منظمة يساريّة طليعيّة آنذاك، هي «لبنان الاشتراكي». ولكنها انسحبت منها فيما بعد واتجهت للعمل النسوي مع الاتحاد النسائي الفلسطيني.


وكما غيرت حياة كثيرين، وقعت الحرب الأهلية وغيرت حياة بيضون في طريقها أيضاً. فانسحبت تماماً، وانكمشت سياسياً طيلة سنوات الحرب. ولكنها عاشت حياتها كزوجة وأم لبنتين بحبٍ ساندها وأخذ بيدها طيلة السنوات المظلمة.
وبعد أن اشتد عود الفتاتين قليلاً، انغمست عزّة في الدراسة والبحث. جعلت من قضايا العنف ضد المرأة، وعلى رأسها جرائم الشرف في المجتمع اللبناني، شغلاً بحثياً ميدانياً سيؤسس لكثير من محاولات التغيير والتطوير. وأخذت كتبها تصدر، وبحوثها تثير الجدل. وحصلت في العام 2007 على جائزة «منظمة المرأة العربية» لبحثها الميداني «الرجولة وتغيّر أحوال النساء» وفي العام 2008 صدر لها كتاب «جرائم قتل النساء أمام القضاء اللبناني»، عن «منظمة كفى عنفاً واستغلالاً» في بيروت، وهو العالم نفسه الذي تقاعدت فيه أستاذة الإنسانيات في الجامعة اللبنانية منذ ربيع 1997.


قد تكون بيضون تقاعدت عن التدريس، ولكن هذا منحها المزيد من الوقت لترفد المكتبة العربية الأكاديمية بالمزيد من أبحاث تكشف واقع المرأة العربية من جهة، ومن جهة أخرى فقد تفرغت أكثر لعملها في منظمات مدنية متخصصة في حقوق المرأة مثل "كفى" التي ساهمت في تأسيسها. وهي وإن كانت أصدرت للتو كتابها الجدي، ستجدها الآن منهمكة في فكرة أخرى أو بحث آخر، يبدو أن بيضون وجدت إكسير شباب العقل الدائم: المعرفة.