ومن الناس من يجعل من حياته منارة يستدل بها الآخرون، ومن الخسارة مكسباً، ومن الألم خطوة تقربه من الحياة. ربما تكون الفنانة التشكيلية سناء المصري نموذجا لفكرة تنتمي لعالم القصص والأفلام القديمة، حيث الحب والإيمان سيد الموقف.
ففي العام 1989 توفيت ابنة المصري أثناء دراستها في إنجلترا، حيث أصيبت ابنة السبعة عشر عاما بالتهاب السحايا وتوفيت خلال ساعات قليلة.


لم يقعدني الحزن

تقول المصري "لم يقعدني الحزن، أحببت أن أحمي أمهات أخريات قد يفقدن أطفالهن مثلي، ويشربن اللوعة التي عرفتها، لذلك نهضت من مصيبتي واحتسبت طفلتي عند الله. وبدأت العمل على إنشاء جمعية لمكافحة التهاب السحايا ورعاية المعاقين من المرض".
بدأت رحلة البحث في العام 1990، إذ جمعت الأم الكثير من المعلومات عن المرض وطرق الوقاية وكيف يصاب به الإنسان ومدى انتشاره في العالم وفي الأردن تحديدا. كانت تحاول أن تكوّن وعيا متكاملا بكل حيثيات المرض، وكأنها تريد أن تعرف ما الذي حدث بالضبط لابنتها، متذكرة أبناء وبنات الآخريات.


وكون المصري فنانة تشكيلية حاولت أن تجعل من فنها وسيلة لدعم فكرة مشروعها، فأقامت معرضا في العام 1995 وخصصت ريعه لإقامة الجمعية، وفعلا كان لها ما أرادت وأقيمت الجمعية بجهد ومثابرة فردية.
كيف ساعدت 500 طفل ؟

ومن خلال الدراسات التي أجريت وجدت المصري أن خمسمائة طفل يصاب سنويا في الأردن بالتهاب السحايا، المرض الذي قد يسبب أنواعا مختلفة من الإعاقات، والذي لم يكن مطعومه مدرجا آنذاك على قائمة مطاعيم وزارة الصحة.
كان العمل مضنيا والبحث عن طريقة للوصول لإدراج المطاعيم على قائمة الوزارة يبدو صعبا، ومن بيتها حيث كان مقر الجمعية في البداية ومن نفقاتها الشخصية بدأت المصري مع تسعة أعضاء في الهيئة الإدارية للجمعية البحث عمن يمول مشروع تطعيم الأطفال في الأردن.


اتصلت الجمعية بالسفارة اليابانية التي بادرت لتمويل مشروع ريادي ووفرت المطاعيم للأطفال بالتعاون مع وزارة الصحة وهيئة الإحصاءات العامة التي أشرفت على إجراء دراسة حول عدد الإصابات في المرض في الأردن.
وبدلا من تطعيم خمسة آلاف طفل، استطاعت الجمعية بحنكة المشرفين عليها من الحصول على عرض من خلال مناقصة أشرفت عليها وزارة الصحة أن تحصل على المطعوم بسعر دينارين للعبوة بدلا من خمسة عشر دينارا.
واستمر الحال كذلك حتى العام 2000، وبعد دراسات عن جدوى المشروع اتضح أن المطعوم يوفر ملايين الدنانير على الدولة من خلال تجنب الوقوع في المرض وما ينتج عنه من إعاقات تستلزم الكثير من النفقات على وزارة الصحة وعلى المواطنين أيضا، بالإضافة إلى أنه يحمي من ستة إلى سبعة أمراض أخرى.


ونتيجة لهذه الدراسة، أدرجت وزارة الصحة المطعوم ضمن قائمة المطاعيم التي تعطى للأطفال. وبذلك تكون الأردن واحدة من أربعين دولة في العالم ورابع دولة عربية تعطي المطعوم مجانا.


لعبت الجمعية دورا مهما في التوعية بالمرض، فقد ذهبت المصري وأفراد من الجمعية وعدد من الأطباء إلى الأغوار والمناطق النائية في حملة للتعريف بالمرض وأهمية الوقاية من خلال المطاعيم.
ولكن المرض كان قد ترك آثاره على الكثيرين، فغدوا إما معاقين حركيا أو سمعيا أو أصيبوا بالعمى، فالسحايا التهاب قوي يصيب غشاء الدماغ ويتلف الخلايا. لذلك ارتأت الجمعية البحث عن طريقة لتأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة، وذلك من خلال إقامة مركز حديث ومتطور جدا لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة والذي وفرت السفارة اليابانية الأجهزة فيه.


نشاط الجمعية
تستقبل الجمعية مائة وخمسين طفلا من ذوي الاحتياجات الخاصة، منهم سبع وستين حالة تتقبل العلاج ومنعم من تحسنت حالته فأصبح يمشي ويجلس ويقفز وتمول الجمعية العمليات الجراحية إن اقتضت الحالات، فضلا عن تعليم بعض الأطفال على حساب الجمعية.
كما تمول شهريا عائلات ذوي الاحتياجات الخاصة المحتاجين بالإضافة إلى توفير المواد الغذائية والألبسة والأدوية وعلاج الأمهات إن لزم الأمر. وتؤكد المصري على أهمية تعاون الأطباء الذي يقدمون العلاج بأجور رمزية.
ولكن المشكلة التي تواجه الجمعية هي عدم وجود دعم ثابت وتمويل لها، فهي تعتمد على إقامة الأنشطة وعلى مساعدات المتبرعين، ولو توفر هذا الدعم بحسب المصري لبادرت الجمعية على الفور لإنشاء صف وظيفي لذوي الاحتياجات الخاصة.


حالات تعالجها الجمعية
ومن الحالات التي تتلقى العلاج في الجمعية، أم مؤمن التي تعالج طفلها منذ ستة أعوام وهو الذي أصيب بسخونة السحايا، وبعد أن كان الطفل معاقا وذا إدراك ضعيف تمكن من خلال العلاج الطبيعي أن يمشي وتحسن إدراكه كثيرا، وأصبح يستطيع الكلام.
وتعزو أم مؤمن الفضل للجمعية التي استطاعت أن تقدم لها يد العون ووفرت عليها الكثير من الوقت والجهد، بما قدمته من خدمات مجانية وأجهزة علاجية حديثة.
وكذلك أم محمد بدوان، التي وجدت في الجمعية مكانا حميما وأجواء أسرية، حيث استقبلت طفلها ابن الستة أعوام ونصف وقد أصيب بالمرض وعمره ثلاثة شهور، فمطعوم التهاب السحايا يعطى في بداية الشهر الرابع من عمر الرضيع. وكان عاجزا تماما ومتأخرا ذهنيا، وقد استطاع الآن أن يقف ويحبو ويجلس ويمشي على "الووكر" وتحسن إدراكه كذلك.
د.مالك محمد حسين المتخصص في العلاج الطبيعي يقول إن مرض السحايا سببه إما فيروسي أو بكتيري أو فطري، يصيب الحبل الشوكي وغشاء الدماغ ويسبب إعاقة حركية أو سمعية أو بصرية ومعظم الحالات يصيبها التأخر الذهني.
ويثني حسين على عمل الجمعية، المستمرة في إقامة المحاضرات وتوزيع المطويات والإعلانات بهدف التوعية، بالإضافة إلى الخدمات العلاجية المجانية التي تقدمها.


ويشير حسين إلى تقصير بعض الناس في تطعيم أطفالهم، مشيرا إلى وجود بعض الأطفال الذين تجاوزا العام والعامين من دون تطعيم، خاصة وأن المطعوم غير منتشر في المراكز الصحية كافة.
ويمكن لأي كان أن يصيبه المرض مهما بلغ عمره، كما يمكن له الحصول على التطعيم إذا ثبت وجود حالات في المنطقة التي يعيش فيها، خاصة وأن السحايا مرض معد.


يبقى أن يقال أن المصري تشكل نموذجا حقيقيا وواقعيا ملموسا أمام ناظرينا، على قدرة الإنسان أن يجعل من حزنه الشخصي وألمه بداية لأمل جديد يفتح الباب لمن يحتاجون لبارقة أمل.

المزيد على أنا زهرة: