إنها عزلة غريبة في معتكف الذاكرة، بين فضاءات سرد صينيّ بديع ومتفرّد، إنك تشاهد نقش الزمن، زخرفته، أو فسيفساءه، منمنمات دقيقة، رُسِمت بدقة سردية عفويّة سحريّة، إذ لا تشعر إلا باللغة الطبيعية، بكتلة تحرر من أي تمظهر وادعاء، يتدفق روح النطق بحميمية عالية، لا تلمس أثر افتعال يتقصّد مسايرة تقنية الزمن النهري. والأكثر دهاءً أن العقدة تغيب، بمفهومها الرتيب، إذ من المعلوم أن العقدة نقطة اجتماع، اشتباك الأشياء وتداخلها بصورة متوترة وغير منظمة، بينما في هذه الرواية التي خطّها الروائي الصيني (يو هوا) تتشظّى العقدة، تتفرّق لتتوالد، ثم تعود مُركّبة من دون أن تشعرك بوجودها ولو على سبيل التنافر.

وعند النظرة السابرة لأغوار الرواية تكتشف العنصُر الضمني ذا الأهمية المتوازية لموقع العُقدة، ألا وهي العزلة الموحّدة بين الشخوص، ذلك الضياع الكينونيّ الذي حرك فضاء الرواية، شخصيات تجتمع في بيئة واحدة أو قرية ومن عائلة واحدة، ويغيب التعايش فيما بينها، لعله تعايش افتراقي يعززه الجوع والفقر والعَوْز، شخصيات منسيّة عن عمد، كلٌّ يتناسى الآخر متقصّداً القوة والبقاء وطيغان الأنا، عُقد تلِد عُقداً أخرى وفق إمكانيات متفرقة ومجتمعة داخل نهر عظيم جبّار لا تهدأ ضراوته، هو نهر العُزلة، بدءاً من الطفل «سون قوانغ لين» بطل الرواية، الذي انسحب في عُزلة غريبة وطويلة، ذهب إليها لا شعورياً، منفصلاً عاطفياً وروحياً عن عائلته المتآكلة من هول الفقر، متوحداً بذاته ومنسيّاً، عزلة مؤثثة داخل حدائق الذاكرة. 

في الواقع هناك عُزلات متعددة ومؤلمة  داخل هذه الرواية وحيوات تعيش امتداد انهيارها المتواتر، ولعل العزلة المعنيّة هنا هي إحساس الفرد بالغربة داخل محيطه الشخصيّ، وتبقى محفزات الاغتراب عن الوسط العائلي أو البيئي كثيرة، كان من بينها: الفقر المولّد للنظرة الدونية والجشع واستبداد الأنا إلى درجة بيع الأبناء أو عرضهم للتبني في الموانئ ، ما أقسى أن تقرأ عزلة الطفل في هذه الرواية، لم يجد مكاناً يهرب إليه إلا معتكف الذكريات، الذاكرة هنا تحضر كملجأ أموميّ آمن وحنون رغم مرارتها وكآبتها، ومواسمها التي لا تخلو من المعاناة من بطش عائلة تعيش ارتباطاً زائفاً، أشبه بعائلة غابيّة، تتقاتل وتفترس الأضعف،  بغية تحقيق مبدأ «البقاء للأصلح». 

ورغم المعاناة المسرودة وفق ملجأ الذاكرة، يحتفظ السرد لك بسحر شاهق، دفء روحيّ خاص، نابع من فكرة النهر الوحيد، المنعزل والمتعبّد والولود والواعد بالتحوّلات والحيوات المتكررة على مرّ الزمان.