إننا جميعاً خلقنا لنمشي في هذه الحياة التي تمثل معبراً لحياة أخرى أكثر بقاءً وأبدية، ولكن ما هو نوع المشي يا ترى الذي يكفل لنا العبور دونما معاناة؟ 

«يمشي البوذا ليستمتع بالمشي، فهو غير معنيّ بالوصول إلى أي مكان على الإطلاق» لعل أشد ما ألهمني في كتاب (طريق قديم .. سحب بيضاء) هو سيرة المشي البوذي، حيث يبدأ بوذا حياة الاستنارة مشياً في السلام الداخلي عبر طريق عميق في العزلة والفراغ، ليتجنب الانشغال بالآخرين، فتفتّحت من جوانب الطريق تعاليم فلسفة الحياة، فلسفة النمو الآمن بالبحث في أكثر الأشياء نأياً وهامشية، البحث في التفاصيل المهدئة للعقل من خلال التركيز على اللحظة الراهنة والتمتع بكل تجلياتها النورانية. تأمل في طريقه أولاً أوراق البيبالا، باحثاً عن الزوال وقيمته، وجّه النظر داخل جسده بعمق، فأدرك كل خلية، كل قطرة ماء تجري دون نهاية، أدرك نهر الولادة والحياة والزوال، أدرك مطراً رحيماً يهطل من انفلاق بركة منسية في الأكوان القديمة، اغتسل في تلك البركة الأزلية من أدران التصورات الخاطفة التي غلفت انطباعات المرء بالوهم وخلّفت المعاناة.

بالمشي التأملي تعلّم بوذا أسس التواصل الرحيم النابع من (الحب) و(الفهم)، كلما تعمّق المَشّاء بهما، اكتسب الحكمة وقلل بذلك من معاناة العالم، وأوقد مستويات جديدة في الوعي الكوني بالموجودات المترابطة في الطبيعة، وانساق تدريجياً إلى الشعور بالترابط الكوني، فالواحد يشمل الكل، والكل مشمول في الواحد، ولا وجود لذات منفصلة أو دائمة، أو حياة يمكن أن تنشأ بمعزل عن بقية الأكوان، نحن مترابطون إلى أبعد حد دون نهاية، هنا يكمن مفتاح التحرر من المعاناة.

تعلم بوذا في رحلة المشي العظيم أن الفهم يثير التعاطف والمحبة والتحرر، وأن الكائنات حين تعاني فهي لا تعي الفهم الذي يمكّنها من الوعي بالتقاسم الأرضي المشترك والترابط المطلق، لهذا تستمر المعاناة على الأرض مع استمرار الإيمان بفكرة الانقسام. 

يمنحنا المشي البوذي فرص التركيز على الخلايا وبث النشاط الروحي، فهو ليس مقتصراً على الحركة فحسب، بإمكاننا المشي والسفر في دواخلنا إن تحققت محرضات الهدأة والتأمل ودرجة الصمت والتبصّر الأعلى والقدرة على عبور جميع الجهات دون أن نتحرك من الحيز الواحد، لأننا في النهاية مترابطون بالفهم والمحبة والنور. امشِ على هينتِك.. على رسلك، لتقلل من معاناة العالم.