أتوقف كثيراً عند (بانجيا) وتخمين عمر الالتصاق، اليابسة الأولى والوحيدة التي احتضنت بحملها الحراري بؤرة التخلّق، القارة العملاقة التي شهدت رحلة اندماج واتحاد واندساس المعادن والثلوج والكائنات الضخمة والدقيقة واللامرئية منذ مئات ملايين السنين. 

ما أجمل تلك القصة الأحفورية المدفونة في ذاكرة الكوكب! قبل المعاناة من حوادث الانجراف القارّي وتباعد اليابسة وأزمنة انقسام القارّات ثم بروز الصفائح والصدوع وامتداد قاع المحيطات كحدود تضاريسية وعرة وشاهقة ومرعبة ومُلغزة تكونت ببطء إعجازيّ مُهيب، نجهل حتى يومنا هذا القدرة على تحديد أزمنتها.

إنها فكرة ضآلة قصة عمر الإنسان أمام جلالة التكوّن المهيب لطبوغرافيا الكوكب. أفكر ببانجيا الممزّقة إلى قارات، والتي ارتضت تناثر جسدها على الماء، المذعنة للتباعد القانوني القسريّ، للانتشار الذي شكل مناخات وكائنات وأقواماً بشرية مختلفة، بعد أن كانت جميعها في حضن واحد. هذه العملية المتقنة تحاكي انقسام الخلية في (عالم الكائنات الدقيقة)، وتكاد تتوازى مع الانفجار العظيم وانتشار الكواكب بعيداً عن بؤرة الكون في (عالم الضخامة). ذلك مدعاة لتذكر قانون التناظر عند الهرمسية: (كما في الأعلى، كذلك في الأسفل، وكما في الأسفل، كذلك في الأعلى).

أعود لأتفكّر ببانجيا الأولى منذ الأزل، القارة الوحيدة داخل محيط عظيم واحد، وما تركه جسدها من دلائل على القارات الممزقة.

تتحرك القارات بشكلٍ بطيء، وتتفاوت درجة التحرك بين قارة وأخرى؛ وذلك دليل على انقسامها عن بعضها، فثمة تطابق في الأحافير الخاصة بالنباتات والحيوانات المكتشفة في كل من قارتي أميركا الجنوبية وأفريقيا، إضافة إلى تماثل التكوينات الصخرية وخطوط العرض والمناخ بين القارات المبعثرة مهما بلغت درجة التباعد الجغرافي، كما أن هناك تشابهاً وتطابقاً بين عددٍ من القارات وهي أميركا الشمالية وأوروبا الغربية والأجزاء الشمالية الغربية من القارة الأفريقية.

ماذا ما بعد الانقسام؟ هل ستعود بانجيا تلملم أشلاءها وفق نظرية (الانكماش) في علم الكونيات المادية؟ والتي هي عكس عملية الانفجار العظيم، أحد أهم السيناريوهات المحتملة لمصير الكون، والتي تفرض أن التوسع الحاصل بسبب طاقة الانفجار العظيم ستتبدد وتنتهي بعد مدة من الزمان، وستبدأ طاقة الجذب المركزية في لملمة أطراف الكون إلى أن يعود كتلة واحدة صغيرة الحجم -عالية الكثافة. 

يقول العلماء إن الصفائح التكتونية للأرض في تحرك دائم، ولكن ببطء شديد جداً، إن التحركات تُقرّب القارات إلى بعضها البعض، وعليه .. يتوقعون عودة بانجيا مرة أخرى بعد حوالي 250 مليون سنة.

ومع التطور الكبير في علم الجيولوجيا الحديثة، يزداد الاقتناع بهذه النظرية، وبأن بانجيا الأم ستعود يوماً للم شمل عظامنا المتناثرة بين القارات، داخل كينونة إنسان واحد، الإنسان الأول الذي تناسلنا منه وإليه سنعود.