رنا امرأة جميلة، فارعة الطول، متعلمة، تزن كلماتها قبل أن تتفوه بها، وطفلتها الوحيدة كل حياتها، لكن حياتها أصبحت جحيماً بعدما تغيّر زوجها فادي بعد أشهر من زواجها. فهو يكثر في توبيخها أمام الملأ، غير آبهٍ بمشاعرها، ومؤخراً، بعدما رفعت صوتها في وجهه، صفعها. شعرت بدوارٍ شديد، شعرت بأن الحياة انتهت، اتصلت بوالدها الذي طالبها بالتريث والبقاء في منزلها. وها هي تحبسُ نفسها في غرفة ابنتها خوفاً من أن يتمادى في ردود فعله. لماذا تغيّر؟ هل أخطأت فاستحقت تأنيباً؟ هل تنسى؟ وماذا لو أعاد الكرة من جديد؟ ماذا لو وبخها أمام زملائها؟ ماذا لو غضب مجدداً وضربها؟ رنا في حيرة، في خوف، في قلق. رنا امرأة أصبحت رقماً جديداً على لائحة النساء المعنفات في هذا العالم.

ليس سهلاً أن تكون هناك أنثى، في القرن الواحد والعشرين، تتعرض لعنف. وليس بسيطاً أبداً أن يُقال لامرأة تلقت صفعة من رجل: بسيطة، هي مجرد صفعة نتجت عن لحظة غضب. فالصفعة ستليها صفعات والتوبيخ سيتطور إلى صفعة وصفعات وأكثر، بدليل عشرات النساء اللاتي يُقتلن يومياً لأن أعصاب رجال خانتهم ففجروا غضبهم على خديجة وروعة ويمونة وفاطمة ورقيّة ومنال ورنا. أسماء وأسماء لضحايا عنف ذكوري أبكين حتى الحجر!.

المرأة التي رأى فيها بيكاسو خليطاً رائعاً من الألوان، صانعة الرجال والحياة والأسر والبيوت والمجتمعات والاقتصاد والتربية، تُعنف!، فهل سبب ذلك.. ضعف المرأة أم ضعف الرجل؟

الدكتور نبيل خوري الاختصاصي في علم النفس العيادي يرى أن «الرجل الذي يُعنف امرأة هو أكثر ضعفاً منها. هو يحاول أن يفرض سطوته على أنثى تعتبر جسدياً أقل قوة منه، وذلك بسبب اضطرابات عاشها في صغره». يفهم من كلام خوري أن الرجل الذي يظن نفسه الأقوى هو في علم النفس الأكثر ضعفاً.

عنف غربي

حددت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 25 نوفمبر من كل عام «اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة»، فمن المفترض أن يكون الهدف من ذلك اليوم هو رفع الوعي حول مدى حجم المشكلات التي تتعرض لها المرأة حول العالم، لكن ما يثير الاستغراب هو تفشي العنف في دول تعتبر متقدمة ثقافياً وحضارياً أيضاً. فلنأخذ مثلاً ألمانيا، حيث تتعرض امرأة من كل ثلاث نساء للعنف مرة واحدة أقله في حياتها. الأرقام في فرنسا ليست أفضل حالاً، فقد ارتفعت نسبة العنف ضد المرأة، زمن الحجر من كورونا، 30%. وهناك 243 مليون امرأة وفتاة تعرضن لأشكال من العنف الأسري والإساءة خلال العام الحالي. أرقام مرعبة. فهل رنا واحدة من هؤلاء؟ هل هو غضب الرجال الذين خسروا وظائفهم وضاقت أخلاقهم بسبب الإغلاق والحجر الصحي؟

لا تنفك رنا عن طرح الأسئلة على نفسها بصوتٍ عالٍ. والسؤال الأبرز الذي يلح عليها: لماذا؟ لماذا يستخدم الرجل الذي أحببته وارتبطتُ به، العنف اللفظي والجسدي معي؟

يرى علم النفس العنف المنزلي أنه «حاجة أحد الشريكين إلى السيطرة على الآخر، وغالباً بسبب تدني احترام الذات والغيرة الشديدة وعدم القدرة على تنظيم حالات الغضب والعواطف القوية، أو حين يشعر بأنه أدنى من شريكته في التعليم والخلفية الاجتماعية والاقتصادية». ولا بُدّ أن يكون فادي، زوج رنا، شعر بالمحبة التي تتمتع بها رنا من زملائها والنجاح الذي تحرزه والإعجاب الذي تحوزه. لذا سعى في البداية إلى توبيخها، في محاولة منه لإرضاء نفسه وإقناعها بأنه أفضل منها، وعاد وتمادى وصفعها. وليست هي وحدها الضحية، فابنتها التي تشاهد الأسلوب اللفظي والجسدي الذي اتبع معها، قد تكون بدورها، إذا سكتت، ضحية أخرى في المستقبل. هذا ما قرأته عن الفتيات اللواتي يترعرعن في منزل يعنّف فيه الأب الأم.

ضرر نفسي

الضرر النفسي الذي يتأتى عن التعنيف، لا يقل عن الأذى الجسدي، خاصة أن الصمت عما حدث، وما قد يحدث، لن يتوقف عند هذا الحد بل سيتجاوزه في لحظة ما، في مكان ما، في غضب ما، إلى أشكال عنف إضافية ستمارس ضدّ المرأة. ولكن، هل المرأة ضعيفة لتبقى في وضع من تتلقى وتصمت؟ ماذا عن نساء الأرض اللاتي رفعنّ الرؤوس عالياً ولا يعرفن المستحيل؟

يبدأ العنف حين يتوقف الكلام، لذا يفترض بنساء الأرض ألا يصمتن عن عنفٍ تعرضنّ له أو يتهددن بالتعرض له. الكلام طبعاً سهل لكن التنفيذ أكثر صعوبة، والمرأة المعنفة قد تسأل نفسها مليون مرة: أتكلم أم أصمت؟ أدمر عائلتي أم أعطي فرصة ثانية وثالثة ورابعة؟ هذا ليس ضعفاً من المرأة، بل وجه من أوجه قوة الأنثى، التي تُشبه باللبوة في الدفاع عن أطفالها وأسرتها، لكن مع تكرار حالات العنف يُصبح عليها أن تقرر.

نصف الحقيقة

(الرجال أقوياء، لكن هذا لا يعني البتة أن النساء ضعيفات). هذه المقولة تتكرر في عيادات المعالجين النفسيين. لا أحد طبعاً ينكر أن الذكور، بدنياً، أقوى إلى حدّ ما من النساء. ويكبر النساء وهنّ يسمعن ذلك، مما يؤثر أكثر في نفسياتهنّ، فيمتنعن عن الصعود إلى الشجرة، كما الزملاء الفتيان، لأنهنّ فتيات، وإذا حاولن فيفعلن بمساعدة الذكور غالباً. وهذه ليست إلا نصف الحقيقة. ثمة حقيقة أخرى تكمن في أن 10% فقط لا غير من النساء الضحايا يطلبن المساعدة. وهذا النوع من المطالبة يحتاج طبعاً إلى شجاعة. هذا لا يعني بالضرورة أن 90% من المعنفات ضعيفات لكن كثيرات يمنعهن كبريائهنّ من الاعتراف بما يتعرضن له، خاصة بين النساء الناجحات اجتماعياً، ظناً منهنّ أن التعنيف الذي يتعرضن له هو دلالة على ضعفهنّ. وهذا طبعاً غير صحيح أبداً، لأن الرجل الذي يظلم امرأة ويعنفها ليس قوياً بل مريض. فلتتذكر كل امرأة ذلك.

 

شهيرات.. ولكن معنَّفات!

لا لون ولا مهنة ولا مكانة اجتماعية ولا جنسية، تُميز بين مُعنَّف ومعنَّف. كل نساء الأرض معرضات لاعتداءات نفسية أو لفظية أو جسدية أو حتى جنسية. لكن، وكما يقال إن العنف قد يلد قوة، فكثير من النساء تغلبن على ضعف شركائهن، ممن ظنوا أنفسهم أقوياء، وانتصرن. وهناك نساء كثيرات في عالم الفنون والتمثيل، أدين أدواراً كثيرة، في حين كنّ، في حياتهنّ الواقعية، يواجهن العنف الأسري. 

كريستينا أغيليرا، شاهدت بدورها والدها يسيء لوالدتها. شاهدته يضربها.

تشارليز ثيرون، الممثلة التي برعت في دورها كسفاحة في فيلم (وحش)، شهدت في عمر السادسة عشرة مقتل والدها على يد والدتها بسبب سوء المعاملة. وهي لم تستطع أن تتخلص بسهولة من هذه المأساة الكبرى في حياتها.

سلمى حايك، تحدثت بدورها عن بشاعة ذاك المشهد الذي وجدته ذات يوم، بينما كانت تتنزه في المكسيك، حيث وقع نظرها على رجل يضرب زوجته بشدة وتقول: «تدخل والدي وتعارك مع الرجل وانتصر عليه. رددتُ في تلك اللحظة: والدي بطل والدي بطل. إلى أن شاهدتُ تلك المرأة تنهض وتضرب والدي. تأكدتُ حينها أن بعض النساء هن من يسمحن للرجل بأن يخال نفسه الآمر الناهي».