تستلهم المؤسِّسة والمديرة الفنية لعلامة (تجريد)، المهندسة المعمارية سارة الحربلي أيقوناتها الهندسية من آفاق إنسانية رحبة، تجعل من تصميماتها الحضرية التي تتخطى المبنى والهيكل كائناً جمالياً نابضاً بالروح، ولا تملك إلا أن تقف مفتوناً بمنجزها الذي يدمج التكنولوجيا مع محاسن الهندسة المعمارية والبيئة، لمنح الفضاءات شخصية غاية في الرقي والإبداع.

تنحدر سارة من عائلة متنوعة الجنسيات وتؤمن بأن لهذا التنوع أثراً كبيراً في اهتماماتها. فوالدها سوري الجنسية ووالدتها سلفادورية وجدتها شركسية، وهي تزوجت من فلسطيني. شغوفة بالفن، بالروحانيات والبُعد الفلسفي اللاملموس للأمور عامة مثل (الأحداث، البشر، المجتمعات والتصاميم تحديداً).  في حوارها مع «زهرة الخليج» تستعرض سارة تجربتها ورؤيتها.

• حدثينا عن شغفك بالمعمار الحضري كيف بدأ؟

- خلال دراستي الجامعية للعمارة في الجامعة الأميركية في الشارقة، أكثر ما كنت أستمتع به هو مشغل الخشب المُحتَوٍي على آلات القص اليدوية والليزر والروبوتات. كنا كطلبة نستخدمها لعمل ماكيتات ثلاثية الأبعاد لتصاميمنا. تنوعت الماكيتات في الأحجام والتفاصيل وتميزت ماكيتاتي بين الطلبة. أحب التعبير عما أتصوره وأتخيله في دماغي، من خلال صناعة مجسمات لها، سواء كانت عن تصوُّر مستقبلي لمبنى أم لواقع حضري لمحيطنا، لأنه بمناقشة مضمون المجسم يصبح واقع المدينة أقرب للفهم والنقد للتحسين والتطوير.

المدينة ليست شجرة

• كيف انطلقت مسيرتك في مجال التصميم؟

- بدأ اهتمامي بمورفولوجيا المدن وتأثير العمران في الحضارات في مشروع التخرج في البكالوريوس، بحيث لم يقتصر مشروعي على التصميم الهندسي لمبنى منفرد، بل كان عن مجمع كامل متنوع الاستخدامات بين سكني، تجاري، مواصلات وترفيه. وبعد عملي في العمارة وتصميم المدن لثلاث سنوات، أحسست بضرورة إحياء الجانب البشري النفسي والاجتماعي، في ممارستي المهنية للجانب الجمالي الهندسي للمدن، فقررت دراسة الماجستير في تصميم المدن بجامعة كاليفورنيا بيركلي، بأميركا. وكان لهذه الدراسة أثر كبير على فكري ونظرتي للعلاقة بين العمران والمجتمعات والحضارات، فأصبحت أرى أن المدن ليست فقط مكونة من البنية التحتية والبنيان والطبيعة، فهذا فقط البُعد الملموس، ويبقى اللا ملموس في روح سُكانها، حركتهم، نشاطاتهم الاجتماعية وغيرها التي يصقل بعضها البعض لتكوين حضارة. لذلك أنا أميل إلى المدن العفوية الطبيعية، مقابل المدن الاصطناعية بحسب ما وصفها كريستوفر ألكساندر المهندس الباحث الناظر في مقاله (المدينة ليست شجرة) في حديثه عن طبيعة التمدن.    

• كيف يمكن للمدن أن تحتفظ بشخصيتها في مواجهة الحداثة؟

- تعريف المدن أبعد من ملامحه الفيزيائية الملموسة، فهي أشبه بكائنات حية لها جسد (البنيان) وروح (المجتمع). وتعريف الحداثة في وقتنا الحالي مرتبط طردياً بالعولمة. والعولمة تيار قوي جداً يصعب اقتراح حلول لتأصيل هوية/شخصية المدن، في مجال واحد منفرد وهو العمارة الحضرية في سياقنا هنا، من دون تأصيل الثقافة والحضارة الجغرافية العربية. لكن نحن في حاجة إلى تحقيق التوازن بين تبادل الخبرات العالمية والتكنولوجيا اللازمة، للمضي قُدماً بالتزامن مع إحياء روح التميز والابتكار في إسقاط واقع الثقافة العربية الأصيلة، على كل فكرة تصميمية مستوردة، حتى تُصبح مُدُنُنا تتميز عن غيرها في التطور، بل تُصَدِّر طعمها الخاص للتمدُّن في مختلف المجالات. بعد أن أصبح العالم يشبه بعضه البعض في الممارسات الدارجة، بات الباحثون عن الإلهام والسُّيَّاح، يبحثون عن المُختلِف الأصيل في شتى المجالات كالفن والتجارة والأزياء والطعام. وفي العمارة نلحظ محاولات استنباط لمسات ثقافية بإخراج معاصر، لأن العمارة واحدة من أهم أشكال التمثيل الثقافي للحضارات.

• صفي لنا من خلال رؤيتك لمساتك التي  يمكن أن تؤسس الوجدان بصور فنية استثنائية ؟

- أسعى للإبداع في دمج اهتماماتي المتنوعة بلمسة فنية. أحب الانتماء إلى الثقافة والحضارة والعراقة العربية، وأشعر بأن تجديدها وتصديرها للعالم أمر ضروري لوطننا العربي بطابع لا يعتمد التقليد. تُشير الصحافية والمؤلفة جين جيكوبز، المشهورة بتأثيرها في الدراسات الحضرية، في كتابها (المدن وثروة الأمم) إلى أن المدن الناجحة هي تلك التي حققت أكثر من نوع واحد من النجاح، والقادرة باستمرار على إعادة ابتكار نفسها. أتمنى أن تكون لي بصمة في ذلك من خلال مجالي الهندسي، التصميمي، الفني والروحاني.

أسس جمالية

• ما الأسس الجمالية التي تتبعينها للتعامل مع الفضاء المكاني؟

- من أكثر ما يلهمني في التصاميم، كيفية جعل المساحات الداخلية أو الخارجية تخدم المستخدمين النهائيين وظيفياً وتلهمهم جمالياً. أنا أؤمن بأن جماليات المساحات أساسية في خلق تجارب وأنماط حياة ذات قيمة أكبر، وبالتالي صحية أكثر للمستخدمين النهائيين. 

• ما أكثر الأعمال التي تفخرين بها؟

- هي هوية علامتي الخاصة (تجريد)، لأنها مزيج خاص من اهتماماتي المتنوعة بين الفن الصناعي، مورفولوجيا المدن وتأثير العمران في الحضارات، إضافة إلى التعبير الفني التجريدي. خاصةً في المجموعة الأولى (الطيف الموجي للوحي) التي مزجت البُعد الروحي الذي أميل إليه كثيراً.

• ما أهم بصمة تعتقدين أنك وضعتها في مجالك؟

- تبنّي فكرة أن نجعل الإنسان هو المحور الرئيسي، الذي تصب في خدمته ومصلحته، الصحية والجسدية والفكرية، كل قرارات أي مشروع على أي نطاق كان. هذا صراع حقيقي في الحياة المهنية للمصممين، بحيث تتنازع المصالح التجارية المتمثلة في الأهداف المادية مع المصالح التطويرية للموارد البشرية المُستخِدمة لسلعة المشروع (سواء كان مبنى، مجمعاً أو حتى قطعة أثاث). أطمح إلى وضع تعريف جديد لمعنى التحضر والتمدن، وماذا يعني تبَنِّي عقلية الإنسان الحضاري المتمدن بمنظور الثقافة العربية، لعله يكون تعريفاً مُلهماً للرُّقي المدني المعاصر بقيم أصيلة.

• ماذا يُنتظر مستقبلاً من مشروع (تجريد)؟

- لن تقتصر التصاميم على نوع واحد من الأعمال الفنية مثل اللوحات، بل ستتنوع بين قطع الأثاث وإكسسوار الديكور والهدايا ذات المعنى العميق، لأني أتعامل مع المنتج كأعمال فنية عميقة المعنى والرسالة. كما يهدف خط تصميم المنتجات الفنية في (تجريد) إلى الإشارة لفهم واعتماد التمدن كعقلية ونمط حياة، وليس فقط مكان إقامة، من أجل تحسين نوعية الحياة في المدن. ستسلط أعمالي الفنية الضوء على ظواهر مدنية مهمة، في مدن عِدة بطابع فني متميز. كذلك، سيوجد (تجريد) في المعارض والمؤتمرات الخاصة بالفن أو التعمير أو التصميم.

اقرأ أيضاً:  مريم طاهر: ابتكرت غرفاً مستقلة بكل مقومات الحياة