أجمع مثقفون عرب على أن الساحة الأدبية العربية، سينالها بعد انقضاء جائحة كورونا جانب من التداعيات التي فرضها انتشار وباء «كوفيد 19» عالمياً، والذي ترك أثراً كبيراً على مختلف مناحي الحياة. لكنهم قالوا في حديثهم لـ«زهرة الخليج» إن هذا التأثير سيصيب القشور دون المضامين، حتى لو تبدلت أمكنة صنوف الإبداع واختلف اهتمام الناس بها أو تحول شكل تقديمها تماشياً مع سرعة العصر. وفي الوقت الذي تباينت فيه الآراء حول درجة التأثير وشكله، أكدوا أن ما يحدث في العالم حالياً من هلع ليس جديداً، معتبرين أن فيروس كورونا شكل من أشكال الكوارث التي لحقت بالأرض منذ نشأتها.

قفزة إلى الأمام

يرى الكاتب والممثل والمخرج المسرحي غنام غنام، أن البشرية مرت بالكثير من الكوارث التي صنعتها الحروب، والتي تركت أثرها الكبير على مضامين الأعمال الإبداعية المختلفة، وأدت أيضاً إلى ظهور تيارات أدبية جديدة، أتت استجابة للتغييرات الثقافية التي أنتجتها تلك الكوارث وأبرزها الحربان العالميتان، يضيف غنام: «جائحة كورونا ليست أول جائحة تؤثر في مسار الحياة البشرية ولن تكون آخرها، لكن هل ستفرز هذه الجائحة مناهج وحساسيات جديدة؟ لا أظن ذلك، بل على الأغلب سوف يتم دمج آثارها في النتاجات التي تعتمد المناهج القائمة، بينما ستساعد كورونا على تكريس وسائل العمل، إذ ستحقق قفزة كبيرة إلى الأمام في أهمية العمل الإلكتروني، فيقفز النشر الإلكتروني، المؤتمرات والمحاضرات وورش العمل عبر الوسائط الإلكترونية، وهذا يقع في باب أشكال ووسائل التواصل، أما المضمون فسيبقى كما هو». يشبه غنام الوضع الحالي للأدب والثقافة كمن يضع الكمامة على وجهه، إذ يؤدي الأمر  إلى تغيير مظهر الوجه مؤقتاً من دون تغيير المضمون، ويعلق: «التباعد يخلق شكلاً جديداً من العلاقات، لكنه لن يغير أحاسيس الحب والبغض والخوف».

الإبداع هو الجوهر

بدوره يؤكد الكاتب والشاعر رشاد أبو داوود أن التغيير سنة الحياة. سواءً كان هذا التغيير اختيارياً أم إجبارياً. ويقول: «مع جائحة كورونا نحن أمام تغيير إجباري في الأدب كما في كل مناحي الحياة، لكن الإبداع هو جوهر الأدب بكل فروعه، يحتاج إلى بيئة خضراء لينبت ويزهر، وإلا ذبل ومات إن كانت البيئة صفراء قاحلة». يزيد أبو داوود ضارباً المثل بأدب القرون الماضية: «فيما مضى كان الأدب يكتب بالريشة التي تغمس بمدواة الحبر، ثم فرض التغيير نفسه، فانتقلت أداة الكتابة إلى قلم الحبر الذي اشتاق لرائحته أولئك الذين عاصروا المرحلة الانتقالية من القلم الى أزرار الكيبورد. إنه التغيير».

 

  • تحرص «أبوظبي للإعلام» على المشاركة في الأحداث الثقافية المختلفة .

تجربة قاسية

الصحافي والباحث طلعت شناعة يجد أن الظروف في مرحلة ما بعد كورونا، ستكون مناسبة لفتح آفاق جديدة للكتّاب لنشر إبداعاتهم المختلفة بعد الجائحة. يضيف شناعة: «لاحظتُ رغبة شديدة لدى عدد من الفنانين والكُتاب لتفريغ شحناتهم، التي تجمعت وأفرزتها الحالة الصعبة للناس المتأثرين بالجائحة. أتوقع صدور مؤلفات وظهور أعمال فنية مثل اللوحات والمسرحيات والقصص من وحي تجاربهم خلال الحظر، وعادة ما تظهر الإبداعات بعد انتهاء حالة المخاض». يصف شناعة التجربة بالقاسية إلا أنه يؤكد أن الإبداع عادة ما يخرج من رحم المعاناة. ويتمنى: «كل ما أرجوه أن تكون هذه الإبداعات ناضجة وسويّة.. خاصة الروايات التي تحتاج إلى معاناة حقيقية».

بريق الكتاب

يدافع الناشر أكرم سلامة، صاحب دار البيروني للنشر والتوزيع، عن كينونة الكتاب وأهمية وجوده ورقياً، باعتباره أساس المنتجات الثقافية كلها، شارحاً: «مر على البشرية الكثير من الكوارث، لكن بقيت قيمة الكتاب قائمة ولم يخفت بريقه، فلا جائحة كورونا ولا غيرها، ستؤثر في استمرارية وجوده وطلبه واللجوء إليه، مهما تراجعت أعداد القراء أو المتحولين إلى القراءة الإلكترونية، التي كانت منفذاً للتثقيف في ظل فترات الحجر الصحي الطويلة، فأي متغيرات لاحقة، لن تؤثر في مركز الكتاب».

  • جائحة «كورونا» أثرت على المشهد الثقافي لكنها أكدت أهمية اللقاءات المباشرة.

عهد جديد

الناقدة الأدبية والروائية ذكريات حرب توضح أن العالم يعيش لحظة تاريخية مفصلية، وواقعاً مضطرباً، ورؤية ضبابية، لكنها تستدرك: «سيدخل العالم بعد جائحة كورونا عهداً جديداً، يشوبه الكثير من القلق والخوف والجوع وتفسخ حقيقي في العلاقات الاجتماعية، والمشهد الثقافي جزء من هذه المنظومة، فلا ريب أنه سيتأثر سلباً بما يحدث». وترى حرب أن الكتابة غدت باهتة لا لون لها، بسبب خوف الناس على أرزاقهم من المجهول المقبل الذي لا يعرفون عنه شيئاً، وتضيف: «التغييرات الأدبية في عالم ما بعد كورونا، تحتاج وقتاً لتنضج، فكل المشاريع الثقافية والأدبية ستحتاج زمناً حتى تتعافى، وأصحاب الرؤى والمستشرفون قد لا يجدون في القريب المنتظر مدخلاً، يُرسل بهم إلى توقع عالم ما بعد كورونا، لذا أجد أن المضمون سيبقى يدور في فلك ما قبل الجائحة، وستمتلئ القشور ببعض التمنيات بمستقبل أفضل حالاً». يتفق غنام، إلى حد ما، مع ما ذهبت إليه حرب، ويقول: «أجد أنه لا حساسيات جديدة يمكن أن تظهر نتيجة جائحة كورونا، لكن من المؤكد أن الجائحة ستكون عنواناً لقضايا أخرى يتناولها المبدعون، لكشف عورات مرحلة تاريخية أو بنية اجتماعية أو سياسية، لذا من الحتمية القول: الإبداع باقٍ والجائحة زائلة». 

أشكال جديدة

يزيد أبو داوود على كلام غنام، مؤشراً إلى أن الإنسان ابن بيئته، وأن القلق الذي يعايشه المبدع منحه الأفق لكي يختلي بنفسه، مضيفاً: «الإحساس المرهف لدى المبدع، يتصاعد إلى قلق وحيرة وشك ودهشة، فيندفع إلى التخلص منه شعراً أو نثراً أو إلى أي شكل من أشكال الأدب. فالقلق هو نبع الإلهام ومحفز الإبداع ومفجر الموهبة. سيتأثر الأدب في مرحلة ما بعد كورونا بالتأكيد، لكن قد تظهر أشكال جديدة يفرضها التغيير، فقد تعود الرواية للصدارة ويتقلص الشعر إلى الومضة، لتتماشى مع الزمن السريع جداً».  بينما يشبه شناعة تداعيات جائحة كورونا والإنتاج الأدبي الذي قد يعقبها، بما حدث بعد نكسة يونيو1967، ويوضح: «تأثر الأدب بما حدث بعد احتلال فلسطين، حيث ظهرت إبداعات متعددة من قصائد وروايات ودواوين شعر، وثقت تلك المرحلة. قد يجنح الأدباء نحو توثيق نكسة كورونا في أعمالهم، موثقين اللحظة بإبداعاتهم».

تلتقط حرب خيط شناعة الإبداعي، وتزيد: «من السابق لأوانه تقييم المشهد الثقافي في ظل جائحة كورونا، فمن الصعب علينا التكهن لما ستؤول إليه الأمور، إن كان على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فالمشهد الثقافي الذي يُنظر إليه عادة، كحالة ترف لا بنية حقيقية في بناء ثقافة الإنسان والمجتمع، صار مطالباً اليوم بأن يقف إلى جانب معاناة الناس وقلقهم وتأثرهم بالجائحة، فإن كان الأدب قبل الجائحة، قد احتل مكانة مميزة وكان محفزاً  للكثير من التغييرات التي اجتاحت العالم، فإنه يقف اليوم على مفترق طرق، فهل يعود لما كان عليه؟».

أدب قابل للحياة

يطالب سلامة بأن يُغير الأدباء المؤثرون جلودهم الإبداعية قليلاً، مستشهداً بابن خلدون ومقدمته التي لا تزال تلقى رواجاً بعد كل السنوات الطويلة، موضحاً: «أمة اقرأ تقرأ. نريد أدباً قابلاً للحياة، يخدم مجتمعاتنا التي تتمتع بعمق تراثي وغزارة تاريخية، فلا نقبل إلا كُتّاباً وكتباً مميزة وعميقة، فالكتب الباقية وذات التأثير والانتشار، هي التي تحمل في طياتها مادة من الجدة والعمق، مما يجعلها قابلة للحياة والاستمرار، بغض النظر عن الوسائل التي سيتبعها الناس في القراءة».

  • أثبت «معرض الشارقة للكتاب» أن الإبداع هو الجوهر الذي لا تخفيه الظروف.

 

«الشارقة للكتاب» يقاوم «كوفيد 19»

على الرغم من أن معرض الشارقة الدولي للكتاب، الذي أقيم هذا العام في موعده السنوي المعتاد، إلا أن دورته التاسعة والثلاثين التي عقدت تحت شعار «العالم يقرأ من الشارقة»، نظمت جميع محاضراتها وورش عملها عن بُعد، انسجاماً مع الإجراءات الاحترازية التي تتخذها دولة الإمارات لمواجهة «كوفيد 19»، في دليل على تأثير جائحة كورونا في الحدث الثقافي الضخم، وهو التأثير الذي قاومته الجهة المنظمة للمعرض، حيث أبقت أبوابه مفتوحة أمام عشاق الكتاب للوصول إلى عناوينهم المفضلة، وزيارة دور النشر التي تواجدت في المعرض طيلة أيام الحدث، في محاولة لتأكيد أن الثقافة تشرع أبوابها للمعرفة والعلم في مختلف الظروف، وهو الأمر الذي نجح بحسب مدير هيئة الشارقة للكتاب أحمد بن ركاض العامري، الذي أكد أن الإجراءات الاحترازية التي طبقت، أسهمت في سلاسة انسياب الزوار ومشاركتهم في أحداث المعرض، ولبت شغفهم للكتاب. والذي أضاف: «خيار تنظيم الدورة الـ39 من معرض الشارقة للكتاب، يجسد مكانة المعرفة والعلم والإنتاج الإنساني في مسيرة الإمارة نحو التنمية الشاملة والعادلة. وأوضح أن: «حجم مشاركات الناشرين من مختلف بلدان العالم، يؤكد حقيقة مهمة، وهي أن المعرفة كانت ولا تزال نافذة الأمم نحو النور والحرية والتقدم، وأن الكتاب بما يمثله من رمز للحضارة سيظل يستقطب الجمهور حوله، متجاوزاً حدود الجغرافيا واللغة أو تلك التي تصنعها الظروف الطارئة. وفي مرحلة ما قبل المعرض كان أمامنا الكثير من الخيارات، فاخترنا الخيار الذي ينتصر للحياة والوعي والإرادة الإنسانية».

 

إقرأ أيضاً: «الثقافة وتنمية المعرفة» تدعم المبدعين لتجاوز «كورونا»