مهما حصل، العالم المُدمّر يعود

لينغرز في الغسق

(انغبورغ باخمان)

هكذا انطوى عامٌ آخر من سيرة العُمر، متدفق بنا الزمن نحو التحولات الجديدة واحتمالات الفرص السعيدة في العام الجديد، حمداً لله على سلامة العالم بعد انزياحه الطويل نحو الحجر الصحي الذي باغتتنا به الجائحة، إنها من أصعب السنين في ذاكرة الأجيال، وكنتُ في ذهول مؤلم وروح ظامئة ليقين ما أدخل في كهف العزلة المليئة بالأسئلة الوجودية بحثاً عن مصدر أمان وطمأنينة. لا شك في أني لم أكن وحيدة في ذلك، فثمة وعي جمعي على مستوى الرّوح بدأ يستشري بحميمية وتناغم كوني، سقف من الوعي والفهم يرتفع، عمود من النور ينتصب وسط فوضى الوباء، لن أنسى أني كنتُ وقتها خارجة من أجواء خلوة أدبية ساحرة جمعتني وفق لقاء قدَريّ مع أرواح نقية وأقلام إبداعية تتطلع للتحوّل الأنيق في عالم الكتابة، حيث العزلة العذبة التي خطط لها برنامج (ألف عنوان وعنوان) في إمارة الشارقة في شهر فبراير، وتم تنفيذها في الصحراء الأسطورية المتاخمة لموقع مليحة الأثري الغامض. 

أكانت الخلوة السحرية الأولى معبراً تمهيدياً قدريّاً لنا من دون أن ندري نحو عزلة من نوع آخر؟ مرض مُكلّف بضرب أبواب العالم، موكل بالرّعب وبشيء طفيف من الغرق لأجل إثارة فتنة الخوف من الموت. بل هو أشبه بحقل من الغيلان التي نمت فجأة على أبواب المدينة الآمنة، وبدأت تدك الأسوار الحصينة، بل هو أفظع من ذلك وأشد عزيزي القارئ المستقبليّ، حين نتذكّر أنه كان عدوّاً لا مرئياً لا يزال ينمو بين الأنفاس والماء، وُلِد ذات يوم بطريقة مجهولة من دون أن ننتبه، وكَبُر كثيراً وتوغل.

أحقاً مضى عام 2020؟

في مثل تلك الأجواء الغامضة التي ضجّت بالفوضى، كنتُ أرى النور يأتي من آخر النفق عبر الاكتفاء بقراءة  الشعر والفلسفة ودروس اللسانيات. تمكنتُ من العثور عليّ، إيجاد نفحات عرفانية نادرة، كبرتُ ربما لعشرين سنة أو أكثر بين عالم الأرقام والحروف، اختلت بعض العلاقات، انمحى أغلبها من الوجود على صفحة حياتي، وبسرعة هائلة عُوّضتُ بغيرها، حيث بدأتْ كيانات نورانية جديدة تدخل بقوة وثقة إلى عالمي، لتصير واقعاً متعاضداً وأليفاً على الروح،  حدث أن التقينا منذ آلاف السنين، في حيوات مدهشة أخرى.

 في عام 2020 تعرفت روحي إلى الكثير من أشباهها، وصارت لي مجموعة روحية صامدة في وجه التيار، في وجه التصحّر، مثل نهر أخضر  يتدفق في الصحراء الكبرى.   

وكنتُ في حالة مودة ورحمة وتواشج مع أشجار البيت ونباتاتي الصغيرة التي وُلدت في تلك الأجواء المُلبدة لتمنحني شيئاً من الحب والنقاء والتفاعل الآمن، كانت كائناتي الخضراء أشبه بالرّسل الحاملة للإشارات، تُذكرني دائماً بنعمة النموّ الدائم والعبور، ما دامت الحياة منطلقة بخيراتها التنموية على مدّ طريق البصر والرّوح. 

رغم كل الخسائر الفادحة ورحيل الكثير من البراءة الأرضية أستطيع اليوم القول: انتهت مهمّتنا في 2020  بأمان، وها هو القارب ينقلنا من جديد، في رحلة العبور والترقّب نحو الضفة الجديدة.. كل عام وأنتم بخير.